للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإنما أقطعُ له قطعةً من النار" (١)، وقد يُطْلِعه اللَّه على حال آخذ ما لا يحل له أخذه، ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم، وأما الذي قال: "يا رسول اللَّه إنَّ امرأتي وَلَدت غلامًا أسود" (٢) فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحًا ولا كناية، وإنما أخبره (٣) بالواقع مستفتيًا عن حكم هذا الولد: أيستلحقُهُ مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقرَّب له الحُكمَ بالشبه الذي ذكره؛ ليكون أذْعَنَ (٤) لقبوله، وانشراح الصدر له، ولا يقبله على إغماض، فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقَوْلِ مَنْ يشاتم غيره: أما أنا فلستُ بزانٍ، وليست أمي بزانية، ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وأنكى من التصريح، وأبلغ في الأذى، وظهورهُ عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح، فهذا لونٌ وذلك لون.

[عمر يحدُّ بالتعريض بالقذف]

وقد حَدَّ عمر بالتعريض [في القذف] (٥)، ووافقه الصحابة رضي اللَّه عنهم [أجمعين] (٦)، وأما قوله (٧) رحمه اللَّه: "إنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم" فإنه يريد ما رواه عن مالك، عن أبي الرِّجال، عن أُمِّه عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين اسْتَبَّا في زمن عمر بن الخطاب، فقال أحدهما للآخر: واللَّه ما أنا بزانٍ ولا أمي بزانية، فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فقال قائل: مَدَحَ أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مَدْحٌ غير هذا، نرى أن تجلده الحد، فجلده عمر الحد ثمانين (٨)، وهذا لا يدل على أن القائل الأول خالف عمر؛ فإنه لما قيل له: إنه قد كان لأبيه وأمه مَدْح غير هذا فَهِمَ أنه أراد القذف فسكت، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة، وقد صح عن عمر من وجوه أنه حَدَّ في التعريض، فروى معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن عمر كان يحد


(١) سبق تخريجه.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) في (ك): "أخبر".
(٤) في (ق): "أدعى".
(٥) سيأتي قريبًا.
(٦) انظر: "زاد المعاد" (٢/ ١١٣ - ١١٥ و ٣/ ٢١٠)، و"الحدود والتعزيرات" (ص: ١١٦ - ٢٤٤)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(٧) أي: الإمام الشافعي.
(٨) أخرجه مالك في "الموطأ" (٢/ ٨٢٩ - ٨٣٠)، وانظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (٦/ ٤٩٩)، و"مصنف عبد الرزاق" (٧/ ٤٢٥)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (٨/ ٢٥٢)، و"المحلى" لابن حزم (١١/ ٢٧٦) وما مضى.

<<  <  ج: ص:  >  >>