للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صلواتَ اللَّه وسلامه عليه وعلى آله أثبت خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضى الذي شرطه اللَّه سبحانه [فيه] (١)؛ فإن العقد قد يقع بغتة من غير تروٍّ ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريمًا يتروَّى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما عيبًا كان خفيًا، فلا أحسن من هذا الحكم، ولا أرفق (٢) لمصلحة الخلق؛ فلو مكّن أحد المتعاقدين الغابن للآخر من النهوض في الحال والمبادرة إلى التفرق لفاتت مصلحة الآخر، ومقصود الخيار بالنسبة إليه، وهب أنك أنت اخترت إمضاء البيع فصاحبك لم يتسع له وقت ينظر فيه ويتروَّى، فنهوضك حيلة على (٣) إسقاط حقه من الخيار، فلا يجوز حتى يخيره؛ فلو فارق المجلس لغير هذه الحاجة (٤) أو صلاة أو غير ذلك ولم يقصد إبطال حَقِّ الآخر (٥) من الخيار لم يدخل في هذا التحريم، ولا يُقال: هو ذريعة إلى إسقاط حق الآخر من الخيار؛ لأن باب [سدّ] (٦) الذرائع متى فاتت به مصلحةٌ راجحة أو تضمَّن مفسدة راجحة لم يُلتفت إليه؛ فلو مُنع العاقد من التفرق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرارٌ به ومفسدة راجحة؛ فالذي جاءت به الشريعة في ذلك أكمل شيء وأوفَقُه للحكمة والمصلحة وللَّه الحمد.

وتأمل قوله: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم اللَّه بأدنى الحيل" (٧) أي أسهلها وأقربها، وإنما ذكر أدنى الحيل لأنَّ المطلِّقَ ثلاثًا مثلًا من أسهل الحيل (٨) عليه أن يعطي بعضَ التيوس المستعارة عشرةَ دراهم ويستعيره لينزو على امرأته نزوة وقد طيَّبها له، بخلاف الطريق الشرعي التي هي نكاح الرغبة؛ فإنها يصعب معها عَوْدُها إلى الأول جدًا، وكذلك من أراد أن يقرض ألفًا بألف وخمس مئة، فمن أدنى الحيل أن يعطيه ألفًا إلا درهمًا باسم القرض، ويبيعه خرقة تساوي [درهمًا] (٩) بخمس مئة، ولو أراد ذلك بالطريق الشرعي لتعذّر عليه،


(١) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(٢) في (ك): "رافق" وفي (ق): "اوفق" والمثبت من سائر الأصول.
(٣) في (ق): "في".
(٤) في (ك) و (ق): "لغير هذا لحاجة".
(٥) قال (د): في نسخة: "إبطال حق أخيه"، قلت: هو كما قال في: (ن) و (ك) و (ق).
(٦) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(٧) سبق تخريجه قريبًا.
(٨) في (ق): "الأشياء".
(٩) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "أربع مئة".

<<  <  ج: ص:  >  >>