للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واللَّه لا أنام، أو: "اشرب هذا الماء" فقال: واللَّه لا أشرب، فهذه كلها ألفاظ عامة نُقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يَقْطع السامعُ عند سماعها بأنه لم يُرِد النَّفيَ العام إلى آخر العمر (١)، والألفاظ ليست تَعَبُّديَّة (٢)، والعارفُ يقول: ماذا أراد، واللفظي يقول: ماذا قال، كما كان [يقول] الذين لا يفهمون (٣) إذا خرجوا من عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: ماذا قال آنفًا؛ وقد أنكر اللَّه سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: ٧٨]؛ فذمَّ من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم؛ وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وَضْعِ اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت (٤) مراتبهم في الفقه والعلم.

وقد كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- يستدلون على إذن الرب تعالى وإباحته بإقراره، وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي، وهذا استدلال على المراد بغير لفظ، بل بما عرف من مُوجب أسمائه وصفاته، وأنه لا يُقرُّ على باطل حتى يبينه، وكذلك استدلال الصِّدِّيقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عَرَفته من حكمة (٥) الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته، أنه لا يُخْزي محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنه (٦) يصلُ الرَّحم، ويحملُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضَّيف، ويُعين على نوائب الحق (٧)، وأَنَّ مَنْ كان بهذه المثابة فإنَّ العزيزَ الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإلهُ العالمين لا يُخزيه، ولا يُسَلِّط عليه الشَّيطانَ، وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة، بل استدلال على صحتها وثبوتها في حقِّ مَنْ هذا شأنه؛ فهذا معرفة منها بِمُرادِ الرب تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المُحْسنَ (٨) بإحسانه، وأنه لا يُضيع أَجر المحسنين، وقد كانت الصحابةُ أَفْهَمَ الأمة لمراد نبيّها وأتْبَعَ


(١) انظر: "إغاثة اللهفان" (١/ ٣٧٧)، في (ق): "واللَّه لا أنام أو أشرب".
(٢) في (ق): "تعمدته" وفي الهامش: "بعمده".
(٣) في المطبوع: "لا يفقهون"، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(٤) في (ق): "تفاوت".
(٥) في (ق): "حكم".
(٦) في (ق): "بأنه".
(٧) وردت هذه الألفاظ على لسان خديجة في حديث رواه البخاري (٣) في (بدء الوحي)، و (٤٩٥٣) في (تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ})، و (٦٩٨٢) في (التعبير): باب أول من بُديء به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة، ومسلم (١٦٠) في (الإيمان): باب بدء الوحي برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من حديث عائشة.
(٨) في (ق): "للمحسن".

<<  <  ج: ص:  >  >>