للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقال أهل العلم جميعًا على أنه لا يقطع فيما دون المجن المذكور قيمته، والخوارج تخالفهم، وتوجب عليه القطع في كل شيء قل أو كثر؛ لقول الله -عز وجل-: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (١) فإن احتج عليهم محتج بحديث المجن، عارضوه بهذا الحديث مع ظاهر الكتاب، وقد كنت حضرت يومًا مجلس يحيى بن أكثم بمكة فرأيته يذهب إلى أن البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد التي تُجعل في الرأس في الحرب، وإلى أن الحبل من حبال السفن، قال: وكل واحدة من هذين يبلغ دنانير كثيرة، ويعجب بهذاء التأويل، ويُبدئ فيه ويُعيد، ويرى أنه قد قطع به حجة الخصم، وهذا إنما يجوز على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلام، وليس هذا موضع تكثير لما يأخذه السارق، فيصرفه إلى بيضة تساوي دنانير، وحبل لا يقدر على حمله السارق، ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانًا عرض نفسه للضرب في عقد جوهر، وتعرض لعقوبة الغلول في جراب مسك، وإنما العادة في مثل هذا أن يقال: لعنه الله يعرض لقطع اليد في حبل رث، أو كبة شعر، أو (رداء) (٢) خلق، وكل ما كان من هذا أحقر كان أبلغ، والوجه في الحديث أن الله -عز وجل- لما أنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (١) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده". على ظاهر ما نزل في ذلك الوقت، ثم أعلمه الله بعدُ أن القطع لا يكون إلا في ريع دينار فما فوقه، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم من حكم الله إلا ما علمه الله -تعالى- ولا كان الله يعرفه ذلك جملة، بل أنزله شيئًا بعد شيء، ويأتيه جبريل -رضي الله عنه- بالسنن


(١) سورة المائدة، الآية: ٣٨.
(٢) في "الأصل": إداوة. والمثبت من فتح الباري (١٢/ ٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>