للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُخَيَّرٌ بَيْنَ السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ وَلَكِنَّ السَّتْرَ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ تَلْقِينِ الْمُقِرِّ لِلدَّرْءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ السَّتْرَ أَفْضَلُ، وَإِنْ شَاءَ أَظْهَرَ؛ لِأَنَّ فِيهِ حِسْبَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ إزَالَةَ الْفَسَادِ أَوْ تَقْلِيلَهُ فَكَانَ حَسَنًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: ١٩] الْآيَةَ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ فِيهِمْ الْفَاحِشَةُ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَذَلِكَ صِفَةُ الْكَافِرِ فَلِذَلِكَ وُعِدُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّاهِدِ ارْتِفَاعُ الْفَاحِشَةِ مِنْ الْعِبَادِ لَا إشَاعَتُهَا وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: ١٥] فَلِهَذَا حَسُنَ وَالْأَوَّلُ وَهُوَ السَّتْرُ أَحْسَنُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: ٢٨٣]؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: ٢٨٢] أَيْ إذَا دَعَاهُمْ الْمُدَّعِي إذْ الْحُدُودُ لَيْسَ لَهَا مُدَّعٍ يَدَّعِيهَا وَلِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مَعَ كَرَمِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ شَحِيحٌ فَلَا يُقَاسُ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَقُولُ فِي السَّرِقَةِ أَخَذَ لَا سَرَقَ)؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمَالِ وَاجِبٌ إذَا طَلَبَهُ الْمُدَّعِي، وَالسَّتْرُ فِي الْحَدِّ أَفْضَلُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةِ الْحَقَّيْنِ بِقَوْلِهِ أَخَذَ؛ لِأَنَّهُ يُحْيِي بِهِ حَقَّ الْمُدَّعِي وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ مَتَى وَجَبَ عَلَيْهِ سَقَطَ الضَّمَانُ إذْ لَا يَجْتَمِعَانِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمُدَّعِي بِقَوْلِهِ سَرَقَ فَيَتَوَقَّاهُ مُرَاعَاةً لِحَقِّهِ إذْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَفِيهِ صِيَانَةُ يَدِ السَّارِقِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى إقَامَتِهِ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَشُرِطَ لِلزِّنَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: ١٥] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: ٤] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: ١٣] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك» وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُذَكَّرِ دُونَ الْمُؤَنَّثِ وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورِ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْعَدَ بِالْعَذَابِ مَنْ أَحَبَّ إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تَلَوْنَا وَفِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ مَعَ وَصْفِ الذُّكُورَةِ تَحْقِيقُ مَعْنَى السَّتْرِ إذْ وُقُوفُ الْأَرْبَعِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ قَلَّمَا يَتَحَقَّقُ وَأَوْجَبَ عَلَى مَنْ نُسِبَ إلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْحَدَّ إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَاللِّعَانَ إنْ كَانَ زَوْجًا كُلُّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ مَعْنَى السَّتْرِ وَيَمْنَعُ مِنْ الْإِظْهَارِ وَلَا يُقَالُ لَيْسَ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ إلَّا بَيَانُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهَذَا الْعَدَدِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِأَقَلَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَذْكُورِ وَلَكِنْ لَا يُوجِبُهُ أَيْضًا فَمَنْ ادَّعَى جَوَازَ مَا دُونَهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ كَمَا أَنَّ النَّافِيَ لِلْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ لَا يَنْفِيهِ إلَّا لِعَدَمِ دَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ إذْ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَقَدْ وُجِدَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَائِهِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ الشُّهُودَ عَلَى الزِّنَا إذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ عَنْ الْأَرْبَعَةِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ لِكَوْنِهِمْ قَذَفَةً.

أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى مُغِيرَةَ بِالزِّنَا وَلَوْ كَانَ الزِّنَا يَثْبُتُ بِمَا دُونَهُ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ بَلْ كَانَ يَجِبُ عَلَى الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا وَلَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْحُقُوقِ لِعَدَمِ التَّسَاوِي وَلِوُجُودِ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ وَشَرْطُ الْقِيَاسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأَصْلِ، وَالْفَرْعِ وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي الْفَرْعِ نَصٌّ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ رَجُلَانِ) لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] وَلِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَجُلٍ فَلَا يُقْبَلُ فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَا حَقِيقَتُهَا؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ غَالِبًا وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ تُقْبَلُ مَعَ وُجُودِ الشُّهُودِ مِنْ الرِّجَالِ وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: ٢٨٢] قَالُوا: إنْ لَمْ يَشْهَدَا حَالَ كَوْنِهِمَا رَجُلَيْنِ فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَلَوْلَا هَذَا التَّأْوِيلُ لَمَا اعْتَبَرَ شَهَادَتَهُنَّ مَعَ وُجُودِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) أَيْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ: مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ) الَّذِي فِي الْفَتْحِ سَتَرَهُ اللَّهُ وَكَتَبَ أَيْضًا قَوْلَهُ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ سَتَرَ إلَخْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ، وَإِنْ شَاءَ أَظْهَرَ؛ لِأَنَّ فِيهِ حِسْبَةً أَيْضًا) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا الشَّاهِدُ فِي السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ إقَامَةِ الْحَدِّ وَالتَّوَقِّي عَنْ الْهَتْكِ وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ اهـ قَالَ الْكَاكِيُّ وَالْحِسْبَةُ مَا يُنْتَظَرُ بِهِ الْأَجْرُ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الصِّحَاحِ احْتَسَبَ بِكَذَا أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْمُ الْحِسْبَةُ بِالْكَسْرِ وَهِيَ الْأَجْرُ وَالْجَمْعُ الْحِسَبُ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَالْأَوَّلُ وَهُوَ السَّتْرُ أَحْسَنُ لِمَا بَيَّنَّا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ، فَإِنْ قُلْت كَيْفَ كَانَ السَّتْرُ أَفْضَلَ مَعَ تَنْصِيصِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: ٢٨٣] قُلْت الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُدَايَنَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي الْحُدُودِ بِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا آنِفًا. اهـ. (قَوْلُهُ وَأَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةِ الْحَقَّيْنِ بِقَوْلِهِ أَخَذَ) أَيْ فَإِنَّ الْأَخْذَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ غَصْبًا أَوْ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُ مَلَكَهُ مُودَعًا عِنْدَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةَ بِالْأَخْذِ مُطْلَقًا ثُبُوتُ الْحَدِّ بِهَا. اهـ. كَمَالٌ

[شُرُوط الشُّهُود فِي الزِّنَا]

(قَوْلُهُ وَشَرْطُ الْقِيَاسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ) أَيْ؛ لِأَنَّ الزِّنَا أَعْظَمُ الْجَرَائِمِ وَلِهَذَا شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ فَلَا يُقَاسُ عَلَى غَيْرِهِ اهـ مِنْ خَطِّهِ.

(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَلِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ رَجُلَانِ) وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ) وَتَخْصِيصُ الْخَلِيفَتَيْنِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ كَانَ مُعْظَمُ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>