للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ وَكَانَ يَبْعَثُهُ إلَى سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعُ مَا يَكُونُونَ وَيَقُولُ: إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ وَشُرَيْحٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا وَلَكِنَّهُ زَاحَمَ الصَّحَابَةَ فِي الْفَتْوَى وَسَوَّغُوا لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ فِي الْمُنَاظَرَةِ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحَابَةِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ يُقَلِّدُهُمْ وَعَدَّهُمْ فَقَالَ مِثْلُ مَسْرُوقٍ، وَالْحَسَنِ وَعَلْقَمَةَ وَشُرَيْحٍ.

وَمَنْ كَانَ فِي رُتْبَتِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى هَذَا تَقْلِيدُهُ لِلصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - لِتَجْوِيزِهِمْ فِعْلَهُمْ وَقَوْلَهُمْ لَا سِيَّمَا شُرَيْحٌ، فَإِنَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَهُوَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ فَيَكُونُ تَقْلِيدُهُ تَقْلِيدًا لَهُمْ ضَرُورَةً وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ كَانَ سِيَاسَةً بِدَلِيلِ تَبْلِيغِهِ أَرْبَعِينَ وَهُوَ حَدُّ الْعَبِيدِ فِي الْقَذْفِ وَبِدَلِيلِ تَسْخِيمِهِ وَهُوَ مِثْلُهُ لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ وَلِذَا لَمْ يَقُولُوا بِهِ لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْمُثْلَةِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَلِأَنَّ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ، وَالتَّسْخِيمَ يَمْنَعَانِهِ مِنْ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْوُقُوعِ فَلَا يُشْرَعَانِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُشَهَّرُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا، وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَاكِمُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ، وَالنَّدَامَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا كَانَ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَعْلَمَ رُجُوعَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ، فَإِنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلَهُ وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ شَهِدَ زُورًا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ التَّشْهِيرُ أَوْ التَّعْزِيرُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَلَى مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ شَهِدَ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا.

وَأَمَّا إذَا قَالَ غَلِطْت أَوْ نَسِيت أَوْ أَخْطَأْت أَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةٍ أَوْ لِمُخَالَفَةٍ بَيْنَ الشَّهَادَةِ، وَالدَّعْوَى أَوْ بَيْنَ شَهَادَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ الْكَاذِبُ مِنْهُمْ الْمَشْهُودُ لَهُ أَوْ الشَّاهِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَقَدْ يَكْذِبُ الْمُدَّعِي لِيُنْسَبَ الشَّاهِدَ إلَى الْكَذِبِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّفْيِ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْإِثْبَاتِ وَلَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ مِنْ الضَّمَانِ، وَالتَّعْزِيرِ وَكَذَا إذَا شَهِدُوا بِقَتْلِ شَخْصٍ أَوْ مَوْتِهِ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ أَوْ بِمَوْتِهِ حَيًّا لِتَيَقُّنِنَا بِكَذِبِهِمْ، وَالرِّجَالُ، وَالنِّسَاءُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي شَاهِدِ الزُّورِ سَوَاءٌ وَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا تَابَ قَالُوا: إنْ كَانَ فَاسِقًا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ فِسْقُهُ، فَإِذَا تَابَ وَظَهَرَ صَلَاحُهُ تُقْبَلُ لِزَوَالِ الْفِسْقِ وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ التَّوْبَةِ فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَبَعْضُهُمْ بِسَنَةٍ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا أَوْ مَسْتُورًا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ لَا تُعْتَمَدُ وَرَوَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ وَبِهِ يُفْتِي فَتَخَلَّصَ لَنَا مِنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الشَّهَادَةَ تُرَدُّ بِسَبَبِ التُّهْمَةِ وَسَبَبُهَا أَنْوَاعٌ إمَّا مَعْنًى فِي الشَّاهِدِ وَهُوَ الْفِسْقُ، وَالْعَمَى وَإِمَّا مَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ وَهُوَ وَصْلَةٌ خَاصَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ كَقَرَابَةِ الْوِلَادِ، وَالزَّوْجِيَّةِ، وَإِمَّا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ فِي حَقِّ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عَجْزَهُ عَنْ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ دَلِيلَ كَذِبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: ١٣] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ) اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: ٢] وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: ٢٨٣] وَقَالَ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

وَالْحَاءِ. اهـ. كَمَالٌ.

(قَوْلُهُ: وَشُرَيْحٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى تَقْلِيدَ التَّابِعِيِّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ نَجْتَهِدُ فَأَجَابَ بِمَا ذَكَرَ هُنَا اهـ (قَوْلُهُ: وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ سِيَاسَةً) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ضَرْبِ عُمَرَ وَالتَّسْخِيمِ كَانَ سِيَاسَةً، فَإِذَا رَأَى الْحَاكِمُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَقَدْ يُرَدُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كِتَابَةِ عُمَرَ بِهِ إلَى عُمَّالِهِ فِي الْبِلَادِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى السِّيَاسَةِ بِالتَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ إلَى الْحُدُودِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُجِيزُهُ وَقَدْ أَجَازَ عَالِمُ الْمَذْهَبِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَبْلُغَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ وَتِسْعٌ وَسَبْعُونَ فَجَازَ كَوْنُ رَأْيِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ التَّسْخِيمِ مِثْلَهُ مَنْسُوخَةٌ فَقَدْ يَكُونُ رَأْيُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُثْلَةَ لَيْسَتْ إلَّا فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْبَدَنِ وَيَدُومُ لَا بِاعْتِبَارِ عَرَضٍ يُغْسَلُ فَيَزُولُ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَالثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا كَانَ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ شَهِدْت فِي هَذِهِ بِالزُّورِ وَلَا أَرْجِعُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. اهـ. فَتْحٌ قَوْلُهُ (قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ شَهِدَ زُورًا تَصْرِيحٌ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَشَاهِدُ الزُّورِ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ بِمُخَالَفَتِهِ الدَّعْوَى أَوْ الشَّاهِدَ الْآخَرَ أَوْ تَكْذِيبِ الْمُدَّعَى لَهُ إذْ قَدْ يَكُونُ مُحِقًّا فِي الْمُخَالَفَةِ أَوْ لِلْمُدَّعِي غَرَضٌ فِي أَذَاهُ وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِ وَاحِدٍ فَيَجِيءَ حَيًّا اهـ

[كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ]

(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ) لَمَّا كَانَ هَذَا أَبْحَاثَ رَفْعِ الشَّهَادَةِ وَمَا تَقَدَّمَ أَبْحَاثَ إثْبَاتِهَا فَكَانَا مُتَوَازِيَيْنِ فَتُرْجِمَ هَذَا بِالْكِتَابِ كَمَا تُرْجِمَ ذَلِكَ لِلْمُوَازَاةِ بَيْنَهُمَا وَإِلَّا فَلَيْسَ لِهَذَا أَبْوَابٌ لِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ مَسَائِلِهِ لِيَكُونَ كِتَابًا كَمَا لِذَاكَ وَلِتَحَقُّقِهِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ إذْ لَا رَفْعَ إلَّا بَعْدَ الْوُجُودِ نَاسَبَ أَنْ يَجْعَلَ تَعْلِيمَهُ بَعْدَهُ كَمَا أَنَّ وُجُودَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>