للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نَهْيًا لَهُ عَنْ الْعُمُومِ، وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَصَحَّ نَهْيُهُ، وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعًا كَانَ الْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْخُصُوصِ فَكَانَ قَوْلُ مَنْ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ الْإِذْنُ أَوْلَى، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِحَاجَتِهِ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَعَدَمِ حَاجَةِ الْآخَرِ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ بِأَنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إلَيْك مُضَارَبَةً أَنْ تَعْمَلَ فِي بَزٍّ فِي رَمَضَانَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ دَفَعْتُ إلَيَّ لِأَعْمَلَ فِي طَعَامٍ فِي شَوَّالٍ، أَوْ بِالْعَكْسِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ مَنْ يَقُولُ فِي شَوَّالٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ آخِرَ الشَّرْطَيْنِ يَنْسَخُ أَوَّلَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتَا وَقْتًا، أَوْ وَقَّتَا وَقْتًا وَاحِدًا، أَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى يَقْضِي بِمَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ كَأَنَّهُمَا لَمْ يُوَقِّتَا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(كِتَابُ الْوَدِيعَةِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْإِيدَاعُ هُوَ تَسْلِيطُ الْغَيْرِ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ الْوَدِيعَةُ مَا يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ) هَذَا فِي الشَّرْعِ وَفِي اللُّغَةِ: الْوَدِيعَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْوَدْعِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَوْ لَيُكْتَبُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ» أَيْ تَرْكُهُمْ إيَّاهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: ٣] قُرِئَتْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْمُودَعُ الشَّيْءُ الْمَتْرُوكُ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِيمَانُ نُورُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ التَّوْفِيقَ عَلَى حِفْظِ وَدِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى حِفْظِ جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨] وَحِفْظُهَا يُوجِبُ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ وَالْخِيَانَةُ تُوجِبُ الشَّقَاءَ فِيهِمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْأَمَانَةُ تَجُرُّ الْغِنَى وَالْخِيَانَةُ تَجُرُّ الْفَقْرَ» وَرُوِيَ أَنَّ زُلَيْخَا لَمَّا اُبْتُلِيَتْ بِالْفَقْرِ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهَا مِنْ الْحُزْنِ عَلَى يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَلَسَتْ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فِي زِيِّ الْفُقَرَاءِ فَمَرَّ بِهَا يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَامَتْ تُنَادِي أَيُّهَا الْمَلِكُ اسْمَعْ كَلَامِي فَوَقَفَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَتْ الْأَمَانَةُ أَقَامَتْ الْمَمْلُوكَ مَقَامَ الْمُلُوكِ وَالْخِيَانَةُ أَقَامَتْ الْمُلُوكَ مَقَامَ الْمَمْلُوكِ فَسَأَلَ عَنْهَا يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقِيلَ إنَّهَا زُلَيْخَا فَتَزَوَّجَهَا مَرْحَمَةً عَلَيْهَا، ثُمَّ شَرْطُ الْوَدِيعَةِ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهَا عِنْدَ الِاسْتِحْفَاظِ وَرُكْنُهَا قَوْلُ الْمُودِعِ أَوْدَعْتُك هَذَا الْمَالَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُودَعِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، أَوْ بِالْفِعْلِ فَقَطْ وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ عِنْدَ الطَّلَبِ وَصَيْرُورَةُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَهِيَ أَمَانَةٌ فَلَا تُضْمَنُ بِالْهَلَاكِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ يَقْضِي بِمَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ) أَيْ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقَعَانِ مَعًا وَلَا عَلَى التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا يَعْمَلُ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ كَذَا فِي الْأَصْلِ. اهـ.

[كِتَابُ الْوَدِيعَةِ]

(كِتَابُ الْوَدِيعَةِ) مُنَاسَبَةُ هَذَا الْكِتَابِ بِمَا تَقَدَّمَ مَرَّتْ فِي أَوَّلِ الْإِقْرَارِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْعَارِيَّةَ وَالْهِبَةَ وَالْإِجَارَةَ لِلتَّنَاسُبِ بِالتَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ بِلَا تَمْلِيكِ شَيْءٍ وَفِي الْعَارِيَّةِ أَمَانَةٌ مَعَ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ لَكِنْ بِلَا عِوَضٍ وَفِي الْهِبَةِ تَمْلِيكُ عَيْنٍ بِلَا عِوَضٍ وَهِيَ الْهِبَةُ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ وَفِي الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ بِعِوَضٍ وَفِيهِ مَعْنَى اللُّزُومِ وَمَا كَانَ لَازِمًا أَقْوَى وَأَعْلَى مِمَّا كَانَ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَكَانَ فِي الْكُلِّ التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى

فَأَوَّلُ الْقَطْرِ غَيْثٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْوَدِيعَةِ مَشْرُوعٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: ٢] وَهُوَ تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لِصَاحِبِهَا بِحِفْظِ مَالِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ ائْتَمَنَ أَمَانَةً فَلْيُؤَدِّهَا» وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ الْوَدِيعَةُ مَا نَصُّهُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. اهـ. مِصْبَاحٌ (قَوْلُهُ وَالْمُودَعُ الشَّيْءُ الْمَتْرُوكُ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ أَوْدَعْت زَيْدًا مَالًا وَاسْتَوْدَعْته إيَّاهُ إذَا دَفَعْته إلَيْهِ لِيَكُونَ عِنْدَهُ فَأَنَا مُودِعٌ وَمُسْتَوْدِعٌ بِالْكَسْرِ وَزَيْدٌ مُودَعٌ وَمُسْتَوْدَعٌ بِالْفَتْحِ وَالْمَالُ مُودَعٌ وَمُسْتَوْدَعٌ أَيْضًا أَيْ وَدِيعَةٌ اهـ

(فَرْعٌ) فِي صُورَةِ وَضْعِ الْمَالِ عِنْدَ آخَرَ وَذَهَابُهُ وَتَرْكُهُ أَوْ إلْقَاءُ الرِّيحِ فِي بَيْتِهِ كَانَ قَابِلًا لِلْوَدِيعَةِ عُرْفًا بِالسُّكُوتِ وَكَذَا لَوْ قَالَ لِصَاحِبِ الْحَمَّامِ أَيْنَ أَضَعُ ثِيَابِي فَقَالَ الْحَمَّامِيُّ ثَمَّةَ فَوَضَعَهُ فَسُرِقَتْ يَضْمَنُ الْحَمَّامِيُّ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِقَوْلِهِ قَابِلًا لِلْوَدِيعَةِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُغْنِي وَفَتَاوَى قَاضِيخَانْ. اهـ. (قَوْلُهُ عِنْدَ الِاسْتِحْفَاظِ) حَتَّى لَوْ أَوْدَعَ الْآبِقَ أَوْ الْمَالَ السَّاقِطَ فِي الْبَحْرِ أَوْ الطَّيْرَ الَّذِي يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ لَا يَصِحُّ وَكَوْنُ الْمُودَعِ مُكَلَّفًا شَرْطٌ أَيْضًا لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْحِفْظُ. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ) احْفَظْ هَذَا الشَّيْءَ أَوْ خُذْ هَذَا الشَّيْءَ وَدِيعَةً عِنْدَك اهـ

(قَوْلُهُ وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ) حَتَّى لَوْ رَأَى إنْسَانًا يَسُوقُهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ يَضْمَنُ لِتَرْكِهِ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْمُودَعَ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْعَقْدِ. اهـ. بَدَائِعُ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ وَالْإِيجَابُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي حَقِّ الْأَمَانَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْمَالِكُ لِلْغَاصِبِ أَوْدَعْتُك الْمَغْصُوبَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَالِ أَمَانَةً حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِرَبِّ الْمَالِ فَيَثْبُتُ بِهِ وَحْدَهُ وَأَمَّا وُجُوبُ الْحِفْظِ فَيَلْزَمُ الْمُودَعَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً. اهـ. شَرْحِ مَجْمَعٍ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَهِيَ أَمَانَةٌ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ حَمْلِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي قَوْلِكَ لِإِنْسَانٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>