للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمَبْسُوطِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّصَدُّقِ عَلَى غَنِيَّيْنِ يُنَافِي هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ هُنَاكَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِيهِ وَفِي الْهِبَةِ إلَّا حَالَ الْمُتَمَلِّكِ حَتَّى أَجَازُوهُمَا لِفَقِيرَيْنِ وَمَنَعُوهُمَا لِغَنِيَّيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ فَقِيَاسُهُ أَنْ يَمْلِكَ الرُّجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ وَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ عَلَى الْفَقِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[كِتَابُ الْإِجَارَةِ]

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هِيَ بَيْعُ مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ) وَقِيلَ هِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ هَذَا فِي الشَّرْعِ وَفِي اللُّغَةِ الْإِجَارَةُ فِعَالَةٍ مِنْ أَجَرَ يَأْجُرُ مِنْ بَابَيْ طَلَبَ وَضَرَبَ فَهُوَ آجِرٌ وَذَاكَ مَأْجُورٌ أَيْ الْإِجَارَةُ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ وَهِيَ مَا أُعْطِيَ مِنْ كِرَاءِ الْأَجِيرِ وَقَدْ أَجَرَهُ إذَا أَعْطَاهُ أُجْرَتَهُ وَالْأَجْرُ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ، وَلِهَذَا يُدْعَى بِهِ يُقَالُ أَجَرَك اللَّهُ وَأَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ آجَرْت مَمْلُوكِي أُوجِرَهُ إيجَارًا فَهُوَ مُؤَجَّرٌ وَفِي الْأَسَاسِ آجَرَنِي دَارِهِ فَاسْتَأْجَرْتُهَا وَهُوَ مُؤَجِّرٌ وَلَا نَقُلْ مُؤَاجِرٌ فَإِنَّهُ خَطَأٌ وَقَبِيحٌ قَالَ وَلَيْسَ آجِرٌ هَذَا فَاعِلٌ بَلْ هُوَ أَفْعَلُ وَهِيَ جَائِزَةٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: ٢٧] وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا مَا لَمْ يَظْهَرْ النَّسْخُ لَا سِيَّمَا إذَا قَصَّ لَنَا لَا عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ

وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَتَيْنِ؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُمَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَحُكْمُهَا وُقُوعُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ سَاعَةً فَسَاعَةً؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهِيَ الْمَنَافِعُ مَعْدُومَةٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِمَا فِيهَا مِنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى مَا سَيُوجَدُ إلَّا أَنَّهَا أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَهِيَ تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ وَالْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ، فَعَمَلُهُ يَظْهَرُ فِي الْمَنْفَعَةِ مِلْكًا وَاسْتِحْقَاقًا حَالَ وُجُودِهَا وَهَذَا كَالْمُسْلَمِ فِيهِ فَإِنَّ الذِّمَّةَ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْمُسْلَمِ فِيهِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ جَوَازِ السَّلَمِ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُجْعَلُ الْمَنَافِعُ الْمَعْدُومَةُ مَوْجُودَةً حُكْمًا ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَسْتَدْعِي مَحَلًّا يَنْعَقِدُ فِيهِ إذْ الشَّرْعُ حَكَمَ بِالِانْعِقَادِ وَهُوَ وَصْفُ الْعَقْدِ الْمُنْعَقِدُ فَحَكَمْنَا بِوُجُودِ الْمَحَلِّ لِيَنْعَقِدَ الْعَقْدُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ لَزِمَ وَاللُّزُومُ وَصْفٌ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَحَكَمْنَا بِوُجُودِ الْمَحَلِّ لِيَنْعَقِدَ الْعَقْدُ فِيهِ فَأَنْزَلْنَا الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا لِذَلِكَ قُلْنَا ارْتِبَاطُ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ صِفَةُ الْكَلَامَيْنِ وَالْمَحَلُّ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْحُكْمِ، وَإِنَّمَا اشْتِرَاطُ وُجُودِ الْمَحَلِّ عِنْدَ الِارْتِبَاطِ؛ لِأَنَّ الِانْعِقَادَ لِأَجْلِ الْحُكْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ حَتَّى يَعْمَلَ الْعَقْدُ فِيهِ فَجَعَلَ الدَّارَ خَلَفًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَلُ هَذَا اللَّفْظِ يَتَرَاخَى إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ وَحُكْمِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمِلْكُ يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ أَمْرٍ حُكْمِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ قَلْبُ الْحَقَائِقِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ حَقِيقَةً وَالْمَنْفَعَةُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا فِي لَحْظَةٍ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا مَوْجُودَةً حُكْمًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِتَقْدِيرِ الْمُسْتَحِيلِ، وَلِهَذَا لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمَنْفَعَةِ لَا يَجُوزُ

وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى الْعَيْنِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ لَيْسَ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

كِتَابُ الْإِجَارَةِ) قَدَّمَ الْهِبَةَ عَلَى الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ فِيهَا عَدَمُ الْعِوَضِ وَالْعَدَمُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوُجُودِ وَوَصَلَهُ بِفَصْلِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَقَعَانِ لَازِمَيْنِ اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُبْطِلُهُ أَوْ يُقَالُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ لَا لِاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، وَقَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ التَّمْلِيكُ عَلَى ضَرْبَيْنِ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ وَتَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ فَتَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِبَدَلٍ هُوَ الْبَيْعُ وَتَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِغَيْرِ بَدَلٍ هِيَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِبَدَلٍ فَهِيَ الْإِجَارَةُ وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ هِيَ الْعَارِيَّةُ (قَوْلُهُ فَإِنَّهُ خَطَأٌ أَوْ قَبِيحٌ) أَمَّا خَطَؤُهُ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ أَفْعَلَ لَا مِنْ بَابِ فَاعَلَ، وَأَمَّا قُبْحُهُ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ الْقُبْحِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَهِيَ تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ) أَيْ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ لَيْسَتْ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ اهـ بَزْدَوِيٌّ فِي الِاسْتِعَارَةِ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ لَوْ قَالَ آجَرْتُك مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا بِكَذَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى الْعَيْنِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَنْفَعَةِ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا. اهـ. شَرْحُ مُغْنِي فِي بَابِ حُكْمِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ (قَوْلُهُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ) أَيْ لَا فِي حَقِّ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَتَأَخَّرُ إلَى حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَعَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَعَدَّ الشَّافِعِيُّ حَالَةَ الِانْعِقَادِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمَنْفَعَةِ لَا يَجُوزُ) قَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ الْإِجَارَةُ إذَا أُضِيفَتْ إلَى مَنْفَعَةِ الدَّارِ تَصِحُّ فَإِنَّهُ نَصَّ فِي هِبَةِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْأَجَلِّ الزَّاهِدِ خُوَاهَرْ زَادَهْ إذَا قَالَ وَهَبْتُك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الدَّارِ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ يَكُونُ إجَارَةً فَهَذَا أَوْلَى اهـ اُنْظُرْ إلَى الْحَاشِيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ نَاقِلًا عَنْ شَرْحِ الْمُغْنِي اهـ وَهَذَا الْفَرْعُ ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَةِ. اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>