للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا يَغْرِسُ فِيهِ إلَّا الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حَقَّهُ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ آخُذُهُ بِقَوْلِهِ فِي الْغَرْسِ وَبِقَوْلِهِمَا فِي إلْقَاءِ الطِّينِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَرِيمُهُ قَدْرُ نِصْفِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِقْدَارُ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ، وَذَكَرَ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْكَرْيِ فِي كُلِّ حِينٍ أَمَّا الْأَنْهَارُ الصِّغَارُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَرْيِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَهَا حَرِيمٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسَائِلُ الشِّرْبِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هُوَ نَصِيبُ الْمَاءِ) أَيْ الشِّرْبُ بِالْكَسْرِ نَصِيبُ الْمَاءِ وَالصَّوَابُ نَصِيبٌ مِنْ الْمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: ١٥٥] أَيْ نَصِيبٍ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَلِكُلٍّ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ، وَيَتَوَضَّأَ بِهِ، وَيَشْرَبَهُ وَيَنْصِبَ الرَّحَى عَلَيْهِ، وَيُكْرِيَ نَهْرًا مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ إنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ) أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا يَدٌ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا وَالْمِلْكُ بِالْإِحْرَازِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ كَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ فَإِذَا أُحْرِزَ فَقَدْ مُلِكَ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَالصَّيْدِ إذَا أُحْرِزَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ.

وَشَرَطَ لِجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ بِأَنْ يَمِيلَهُ بِالْكَرْيِ أَوْ نَصْبِ الرَّحَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمُبَاحِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْهَوَاءِ وَالْمُرَادُ بِالْكَلَأِ الْحَشِيشُ الَّذِي يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْبِتَهُ أَحَدٌ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَزْرَعَهُ، وَيَسْقِيَهُ فَيَمْلِكُهُ مَنْ قَطَعَهُ، وَأَحْرَزَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ الِاسْتِضَاءَةُ بِضَوْئِهَا، وَالِاصْطِلَاءُ بِهَا، وَأَلَّا يُقَادَ مِنْ لَهَبِهَا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمْرَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ فَكَانَ لَهُ مَنْعُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَفِي الْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْآبَارِ وَالْحِيَاضِ لِكُلٍّ شُرْبُهُ وَسَقْيُ دَوَابِّهِ لَا أَرْضِهِ، وَإِنْ خِيفَ تَخْرِيبُ النَّهْرِ لِكَثْرَةِ الْبَقَرِ يَمْنَعُ)، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ حَقُّ الشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّابَّةِ فِيهِ لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ الْأَنْهَارَ وَالْآبَارَ وَالْحِيَاضَ لَمْ تُوضَعْ لِلْإِحْرَازِ وَالْمُبَاحُ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ فَصَارَ كَالصَّيْدِ إذَا تَكَنَّسَ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَاءِ تَتَجَدَّدُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَمَنْ سَافَرَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَا يَكْفِيهِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى وَطَنِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ مِنْ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى طَرِيقِهِ لِنَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَوْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ لَحِقَهُ حَرَجٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ شَرْعًا بِخِلَافِ سَقْيِ الْأَرَاضِي حَيْثُ يَمْنَعُ صَاحِبُ الْمَاءِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ضَرَرٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِهِ إذْ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ فَيَذْهَبُ بِهِ مَنْفَعَتُهُ فَيَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَلَا كَذَلِكَ شُرْبُهُ وَسَقْيُ دَابَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ بِمِثْلِهِ ضَرَرٌ عَادَةً حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَ فِيهِ الضَّرَرُ بِكَسْرِ ضِفَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ الْمَنْعُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ خِيفَ تَخْرِيبُ النَّهْرِ لِكَثْرَةِ الْبَقَرِ يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِصَاحِبِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا حَقَّ الشُّرْبِ لِغَيْرِهِ لِلضَّرُورَةِ فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهُ إذْ بِهِ تَبْطُلُ مَنْفَعَتُهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالْمُحَرَّزُ فِي الْكُوزِ وَالْجُبِّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِحْرَازِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

[ مَسَائِلُ الشِّرْبِ]

(مَسَائِلُ الشِّرْبِ) (قَوْلُهُ: وَالصَّوَابُ إلَخْ) أَقُولُ كَانَ الشَّارِحُ سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَوَهَّمَ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى اللَّامِ كَغُلَامِ زَيْدٍ وَنَصِيبِ زَيْدٍ فَبَادَرَ إلَى تَخْطِئَةِ الْمُصَنِّفِ لِعَدَمِ ظُهُورِ اسْتِقَامَتِهِ حِينَئِذٍ إذْ الْمَاءُ لَا نَصِيبَ لَهُ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الشَّارِحِ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَيْسَتْ بِمَعْنَى اللَّامِ بَلْ بِمَعْنَى مِنْ لِصِدْقِ تَعْرِيفِهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ بَعْضًا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَصَالِحًا لِحَمْلِهِ عَلَيْهِ كَخَاتَمِ حَدِيدٍ وَبَابِ سَاجٍ فَالْخَاتَمُ بَعْضُ الْحَدِيدِ وَالْبَابُ بَعْضُ السَّاجِ وَالنَّصِيبُ بَعْضُ الْمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ الْمُضَافِ، وَهُوَ الْحَدِيدُ وَالسَّاجُ وَالْمَاءُ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ فَيُقَالُ الْخَاتَمُ حَدِيدٌ وَالْبَابُ سَاجٌ وَالنَّصِيبُ مَاءٌ فَظَهَرَ لَك أَنَّ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الصَّوَابُ، وَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ مِنْ الْخَطَأِ الْعُجَابِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. اهـ. (قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ» إلَخْ) شَرِكَةُ إبَاحَةٍ لَا شَرِكَةُ مِلْكٍ فَمَنْ سَبَقَ إلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي وِعَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَحْرَزَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَهُوَ مِلْكٌ لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ يَجُوزُ لَهُ تَمْلِيكُهُ بِجَمِيعِ وُجُوهِ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ وَصَايَاهُ كَمَا يَجُوزُ فِي أَمْلَاكِهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ الِاسْتِضَاءَةُ وَالِاصْطِلَاءُ بِهَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا الشَّرِكَةُ فِي النَّارِ فَبَيَانُهُ مَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي شَرْحِ كِتَابِ الشِّرْبِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَوْقَدَ نَارًا فِي مَفَازَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ النَّارَ تَكُونُ شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ أَجْمَعَ حَتَّى لَوْ جَاءَ إنْسَانٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَضِيءَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَخِيطَ ثَوْبًا لَهُ حَوْلَ النَّارِ أَوْ يَصْطَلِيَ بِهَا فِي زَمَانِ الْبَرْدِ أَوْ يَتَّخِذَ مِنْهُ سِرَاجًا لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ النَّارِ مَنْعُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مَوْضِعٍ مَمْلُوكٍ لَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ لَا بِالنَّارِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ فَتِيلَةِ سِرَاجِهِ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْجَمْرَةِ فَإِنَّ لِصَاحِبِ النَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَوْ أَطْلَقْنَاهُ لِلنَّاسِ لَمْ يَبْقَ لَهُ نَارٌ يَصْطَلِي بِهَا، وَيَخْبِزُ بِهَا، وَهَذَا الْأَوْجَهُ لَهُ. اهـ. حُكْمُ الْكَلَأِ ذَكَرَهُ الشَّارِحُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْمَرَاعِي، وَإِجَارَتِهَا. اهـ.

(قَوْلُهُ: بِكَسْرِ ضِفَّتِهِ) أَيْ ضِفَّةِ النَّهْرِ، وَهِيَ حَافَّتُهُ وَرَوَاهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>