للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُتَعَيِّنٌ فِي الْقِصَاصِ عِنْدَنَا لِمَا مَرَّ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَيْنًا وَحَقُّهُ ثَابِتٌ فِيهِ قَبْلَ اخْتِيَارِهِ الْمَالَ كَمَا إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً فَإِذَا فَاتَ الْمَحَلُّ بَطَلَ الْحَقُّ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ بِقَوَدٍ أَوْ سَرِقَةٍ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْأَرْشُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عِنْدَهُ أَصْلِيٌّ كَالْقَوَدِ فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ تَعَيَّنَ الْمَالُ وَلَنَا أَنَّ الْقَوَدَ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَيَفُوتُ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ كَمَا إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بِقِصَاصٍ أَوْ سَرِقَةٍ قَدْ أَوْفَى بِهَا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَسَلِمَتْ لَهُ مَعْنًى فَيَغْرَمُ لِلْأَوَّلِ بِخِلَافِ النَّفْسِ إذَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ لِغَيْرِهِ فَقُتِلَ بِهِ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ.

لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْمَالِ فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَكْبَرَ بِأَنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ اسْتَوْعَبَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ، وَهِيَ لَا تَسْتَوْعِبُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ؛ فَلِأَنَّ الشَّجَّةَ إنَّمَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِكَوْنِهَا مُشِينَةً فَيَزْدَادُ الشَّيْنُ بِزِيَادَتِهَا، وَفِي اسْتِيفَاءِ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَعَلَ وَبِاسْتِيفَاءِ قَدْرِ حَقِّهِ لَا يَلْحَقُ الشَّاجَّ مِنْ الشَّيْنِ مِثْلُ مَا يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ فَيُخَيَّرُ كَمَا فِي الشَّلَّاءِ وَالصَّحِيحَةِ ثُمَّ لَوْ اخْتَارَ الْقَوَدَ يَبْدَأُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَفِي عَكْسِهِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَشْجُوجِ أَكْبَرَ يَتَخَيَّرُ أَيْضًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ كَمَلًا لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الشَّيْنِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ الرَّأْسِ، وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا إلَى قَفَاهُ وَلَا تَأْخُذُ إلَى قَفَا الْآخَرِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِمَا ذَكَرْنَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ الرَّازِيّ الْكَبِيرِ أَنَّ لَهُ الِاقْتِصَاصَ وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَحَلِّ فَلَا يُنْظَرُ إلَى الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ كَالْيَدِ.

وَجَوَابُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الشَّجَّةِ لِأَجْلِ الشَّيْنِ، وَهُوَ يَتَفَاوَتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَفِي قَطْعِ الْيَدِ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، وَهِيَ لَا تَتَفَاوَتُ وَلَعَلَّ الصَّغِيرَةَ أَنْفَعُ مِنْ الْكَبِيرَةِ فَافْتَرَقَا

(فَصْلٌ). قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ صُولِحَ عَلَى مَالٍ وَجَبَ حَالًّا وَسَقَطَ الْقَوَدُ) أَيْ إذَا صُولِحَ الْقَاتِلُ عَلَى مَالٍ عَنْ الْقِصَاصِ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَ الْمَالُ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ حَالًّا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: ١٧٨]، الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصُّلْحِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَالَ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا» وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَخْذُ الْمَالِ بِرِضَا الْقَاتِلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لَهُ يَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ مَجَّانًا فَكَذَا تَعْوِيضًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ مِنْ إحْسَانِ الْوَلِيِّ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِلِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ فَكَذَا التَّعْوِيضُ وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ فَيُفَوَّضُ إلَى اصْطِلَاحِهِمَا كَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً حَيْثُ لَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، فَيَكُونُ أَخْذُ أَكْثَرَ مِنْهُ رِبًا وَإِنَّمَا وَجَبَ حَالًّا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِالْعَقْدِ وَالْأَصْلُ فِي مِثْلِهِ الْحَوْلُ كَالثَّمَنِ وَالْمَهْرِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِبَذْلِ الْمَالِ إلَّا مُقَابَلًا بِهِ فَيُوَفِّرُ عَلَيْهِ مَقْصُودَهُ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَتَنَصَّفُ إنْ أَمَرَ الْحُرُّ الْقَاتِلُ وَسَيِّدُ الْقَاتِلِ رَجُلًا بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِهِمَا عَلَى أَلْفٍ فَفَعَلَ) مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَعَبْدًا فَأَمَرَ الْحُرُّ الْقَاتِلُ وَمَوْلَى الْعَبْدِ الْقَاتِلِ رَجُلًا بِأَنْ يُصَالِحَ عَنْ دَمِهِمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ الْمَأْمُورُ فَالْأَلْفُ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالْقِصَاصِ وَهُوَ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَيَنْقَسِمُ بَدَلُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْأَلْفَ وَجَبَ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مُضَافٌ إلَيْهِمَا فَيَنْتَصِفُ مُوجِبُهُ وَهُوَ الْأَلْفُ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ صَالَحَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ حَظِّهِ عَلَى عِوَضٍ أَوْ عَفَا فَلِمَنْ بَقِيَ حَظُّهُ مِنْ الدِّيَةِ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا بِالْعَفْوِ أَوْ بِالصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَيَنْفُذُ عَفْوُهُ وَصُلْحُهُ فَيَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُ حَقِّ الْبَاقِينَ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتًا فَكَذَا سُقُوطًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ فَعَفَا أَوْلِيَاءُ أَحَدِهِمَا حَيْثُ يَكُونُ لِأَوْلِيَاءِ الْآخَرِ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قِصَاصَانِ لِاخْتِلَافِ الْقَتْلِ وَالْمَقْتُولِ فَبِسُقُوطِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْقُطُ الْآخَرُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ ثُبُوتًا هَكَذَا بَقَاءً بِخِلَافِ مَا نَحْنُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ يَبْدَأُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ) حَتَّى يَبْلُغَ مِقْدَارَهَا فِي طُولِهَا إلَى حَيْثُ يَبْلُغُ ثُمَّ يَكُفُّ اهـ غَايَةٌ (قَوْلُهُ إنَّ لَهُ الِاقْتِصَاصَ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ أَنَّهُ لَهُ الِاقْتِصَاصُ. اهـ

[فَصْلٌ صُولِحَ عَلَى مَالٍ وَجَبَ حَالًّا وَسَقَطَ الْقَوَدُ]

(فَصْلٌ) (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: ١٧٨] الْآيَةَ) أَيْ مِنْ جِهَةِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا) أَيْ أَوَّلَ كِتَابِ الْجِنَايَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً إلَخْ) إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى جِنْسِ مَا اُفْتُرِضَتْ فِيهِ الدِّيَةُ، وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى خِلَافِ الْجِنْسِ يَجُوزُ وَإِنْ زَادَ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ نَصَّ عَلَيْهِ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ) أَيْ سُقُوطَ الْقَوَدِ. اهـ. .

<<  <  ج: ص:  >  >>