للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الجهة الثانية: جهة المدلول]

ويقصد بالمدلول: الدلالة، فالكتاب والسنة والإجماع، هذه جهة متعلقة بالدليل، لكن إذا جئنا لتحصيل المدلول من الدليل فإن هذا أيضاً ينتج عنه كثير من الخلاف.

وهناك ما عرف عند الأصوليين بأوجه الدلالات، ومن المعلوم أن في كتب الأصوليين -كالمستصفى لـ أبي حامد الغزالي وغيره- نشراً واسعاً لأوجه الدلالات، ومنها مثلاً: دلالات المنطوق، ودلالات المفهوم، وما يتعلق بأقسامها، ومنها: ما يتعلق بدلالات النص والظاهر، ودلالات الإيماء، ودلالات الإشارة، والدلالات في التقسيم المنطقي العقلي الضروري تنقسم إلى: دلالة بينة، ودلالة لسيت بينة، ويدخل في الدلالة البينة دلالة النص والظاهر، ويدخل في عدم البينة ما يسميه أهل الأصول بدلالات الإيماء مثلاً، والدلالات البينة لم تكن محل خلاف عند قدماء الفقهاء، إنما اختلفوا في الدلالات التي هي في درجة بعد البينة.

وحينما نقول: إن الدلالات -كتقسيم عام- تنقسم إلى: دلالات بينة، ودلالات ليست بينة، والدلالات البينة لا يختلف فيها، والدلالات غير البينة يختلف فيها، فهنا أمران:

الأمر الأول: ما التزمه كثير من أهل الأصول في إعطاء مذهبية لحكم الدلالات هل هو التزام صحيح مطرد؟ نقول: إن بعضه -بل كثيراً منه- من حيث الالتزام ليس صحيحاً، فمثلاً: هل الأحناف يعملون بدلالة الإيماء والإشارة أم لا؟ وكذلك حينما يُفرض أن بعض المذاهب عملت بمفهوم المخالفة وبعض المذاهب لم تعمل به، فإن هذه الإطلاقات ليست نصوصاً ولا استقراء يمكن أن يشاهد -إن صح التعبير- مشاهدة بينة في فقه أبي حنيفة والشافعي، أو من قبل هؤلاء؛ بل هي محاولة في الاقتباس العلمي وصلوا بها إلى هذه النتائج.

ولذلك فلا أرى أن من الحكمة أن يلتزم طالب العلم تحت هذه المذهبيات في أنواع الدلالات؛ بل المعتبر العام هو بيان الدلالة، ومن المعلوم أن الصحابة والأئمة لم يكن عندهم هذا التقسيم، وهذا لا ينبغي أن يكون أمراً مشكلاً؛ لإنه اصطلاح، والاصطلاح لا مشاحة فيه، لكن بالقطع أن الدلالات منها ما هو بين ومنها ما ليس ببين، ولكن من هو الذي يعين أن هذه الدلالة بينة أو غير بينة؟

الحقيقة العلمية أن التعيين يقع بتقابل ذهن الفقيه مع الكلمة أو الجملة، والحالة التي عليها الفقيه -وهو المستدل- هي التي تحكم أن هذه الدلالة عنده بينة أو ليست بينة.

فمثلاً: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) فالفقيه أو الناظر- وقد لا يكون بدرجة فقيه، فقد يكون من طلاب العلم الذين يفتون الناس ولم يصل إلى درجة فقيه حتى يكون مجتهداً، ومن هنا فلابد من القول بأن الأمة تقوم بطلاب العلم، وليس بالضرورة أنها لا تقوم إلا بالمجتهدين، مع ضرورة وجود المجتهدين، لكن السعة التي في الأمة تحتاج إلى سائر الدرجات، ومن المعلوم أنه ليس كل الذين كتبوا في الفقه من أهل الاجتهاد، وقد يكتب ويؤلف الإمام والعالم مع أنه لم يكن قد وصل إلى درجة الاجتهاد، ومما يلاحظ هنا أن هناك ألقاباً منحت لأسماء بطريقة فيها توسع.

نعود إلى حديث: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) فهل هذا من دلالة النص والظاهر، أم من دلالة أقل من ذلك كالإيماء والإشارة إلى وجوب غسل الجمعة؟ كثير من الفقهاء بل جماهير الفقهاء لا يرون فيه دلالة نص ولا ظاهر، ولا ربما أقل من ذلك؛ بل يرون أن الحديث لا يتكلم عن الوجوب بالمعنى الاصطلاحي، وقد يقول البعض: إن في الحديث دلالة صريحة، بل ربما قال: دلالة ظاهرة، والدلالة الصريحة والظاهرة معتبرة عند عامة أهل العلم، فيبدأ يرتب الحكم ترتيباً أصولياً، ويظن بعض طلاب العلم أنه قد حل المسألة بمعنى الكلمة؛ لأنه نظمها تحت مصطلحات -إن صح التعبير- بارقة، وهذا ليس ذماً لها، فإنها في حقيقتها مصطلحات بارقة.

والذي نريد أن نصل إليه أن تعيين الدلالة لا يرتبط بالنص فقط، وهذا النص من حيث هو لا يعطي دلالة معينة؛ لأنه إذا أعطى دلالة معينة صار نصاً قطعياً، وهذا لا يختلف فيه، وما دام أن النص قد اختلف في دلالته فمعناه أن النص من حيث هو لم يصرح تصريحاً قطعياً بالدلالة، واختلاف التحصيل هنا يرجع إلى المستدل، وفقهه لهذه الدلالة.

إذاً: مسألة دلالة الإيماء أو الإشارة ونحو ذلك هل هي حجة أو ليست بحجة؟ هذا طرف من الخلاف، وليس هو جوهر الخلاف؛ لأن الأهم منه هو: متى نقول عن هذه الدلالة في النص: إنها إيماء، أو إشارة، أو نص أو ظاهر؟ لا نستطيع أن نقول: إنها نص؛ إذ كيف نقول: إنها نص، والجماهير المتقدمون لم يعتبروها؟ مع أن الحديث لا نستطيع أن نقول: إنه لم يبلغهم؛ فهو حديث مشهور في كتبهم وسننهم ومسانيدهم، ومع ذلك لم يعتبروا دلالته على الوجوب.

ومسألة تعيين الدلالة وهل تفيد أو لا تفيد؟ هذه لا تندرج تحت مصطلحات معينة، فليس هناك رمز معين لدلالة الإيماء يتفق عليه، أو رمز معين لدلالة الإشارة يتفق عليه، حتى مسألة الصيغ حينما يقولون مثلاً: صيغ العموم ونحوها، هذه أحوال تقرِّب، لكن أحياناً يقف الفقيه متردداً في هل هذا العام عام محفوظ، أم أنه عام مخصوص، أم أنه عام أريد به الخصوص؟ ونحو ذلك، وهذه صور مبثوثة في كتب أصول الفقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>