للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ مَالِيَّةٌ تَوَقَّفَ وُجُوبُهَا عَلَى مَعْنًى، فَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَهُ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي الْآدَمِيِّ وَالصَّيْدِ إذَا جَرَحَ مُسْلِمًا، ثُمَّ كَفَّرَ بِالْمَالِ قَبْلَ زَهُوقِ الرُّوحِ، أَوْ جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا ثُمَّ كَفَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ يَجُوزُ بِالْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ.

(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ حَقِيقَةً، وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحِنْثِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَلْيُكَفِّرْ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ التَّكْفِيرِ، وَلَا يَجُوزُ مُطْلَقُ التَّكْفِيرِ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ، أَمَّا قَبْلَ الْحِنْثِ يَجُوزُ عِنْدَهُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ مَا يُكَفَّرُ بِهِ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ، وَالتَّخْصِيصُ فِي الْمَلْفُوظِ الَّذِي لَهُ عُمُومٌ دُونَ مَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْيَمِينِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى حَدِّ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا إلَى الشَّيْءِ طَرِيقًا لَهُ، وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ مِنْ الْحِنْثِ مُحَرِّمَةٌ لَهُ فَكَيْفَ تَكُونُ مُوجِبَةً لِمَا يَجِبُ بَعْدَ الْحِنْثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْإِحْرَامَ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِمَّا يَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ، فَإِنَّهُ طَرِيقٌ يُفْضِي إلَى زُهُوقِ الرُّوحِ، وَبِخِلَافِ كَمَالِ النِّصَابِ، فَإِنَّهُ تَحَقُّقُ الْغِنَى الْمُؤَدِّي إلَى النَّمَاءِ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْمَالُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ بِالْحِنْثِ الْيَمِينُ يَرْتَفِعُ، وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّيْءِ فَالْوُجُوبُ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقَرُّرِهِ لَا عَلَى ارْتِفَاعِهِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْيُمْنَ لَيْسَتْ بِسَبَبِ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ حَتَّى يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَبَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ الْأَدَاءُ جَائِزٌ مَالِيًّا كَانَ أَوْ بَدَنِيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ يَجُوزُ لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ مُتَأَخِّرًا إلَى أَنْ يُدْرِكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَإِضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِحِنْثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ، كَمَا تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَى الصَّوْمِ، وَالْإِحْرَامُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ، فَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ الْوَاجِبِ لِيَصِيرَ عِنْدَ أَدَائِهَا كَأَنَّهُ تَمَّ عَلَى بَرِّهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْخَلَفِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْوَاجِبِ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ مَا هُوَ الْأَصْلُ بَاقٍ وَهُوَ الْبِرُّ، فَلَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ خَلَفًا كَمَا لَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَوْبَةٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ {: تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ} [النساء: ٩٢]، وَالتَّوْبَةُ قَبْلَ الذَّنْبِ لَا تَكُونُ، وَهُوَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ مُعَظِّمٌ حُرْمَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>