للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا مَا يُعْتِقُ أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قُدْرَتُهُ عَلَى الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ، فَمَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ، أَوْ غَائِبًا عَنْهُ، فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التَّكْفِيرِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ الْغَائِبِ عَبْدٌ، فَحِينَئِذٍ لَا يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ.

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ آبِقًا، وَهُوَ يَعْلَمُ حَيَاتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَهَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَالٍ يُكَفِّرُ بِهِ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِيمَا إذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِالْمَالِ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَسْتَدِلُّ بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا الْوُجُودُ دُونَ الْغِنَى، وَمَا لَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ بِالْمَالِ، فَهُوَ وَاجِدٌ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لِهَذَا، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبَعْدَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مُسْتَحَقٌّ بِدَيْنِهِ، فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ، وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُسْتَحَقٌّ لِعَطَشِهِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّيَمُّمِ، وَإِنْ صَامَ الْعَبْدُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، فَعَتَقَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ، وَأَصَابَ مَالًا لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الْحُرِّ الْمُعْسِرِ إذَا أَيْسَرَ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ كَانَ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ فَكَانَ هُوَ وَالْحُرُّ سَوَاءً.

وَلَوْ صَامَ رَجُلٌ سِتَّةَ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ دُونَ نِيَّةِ التَّمْيِيزِ، فَإِنَّ التَّمْيِيزَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ شَرْعًا مَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَالصَّوْمُ فِي نَفْسِهِ أَنْوَاعٌ، فَلَا يَتَعَيَّنُ نَوْعٌ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَأَمَّا كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ فِيمَا بَيْنَهُمَا كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْقَضَاءَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ تَعْيِينِ يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ مِنْ حَيْثُ إنْ يَكُونَ هُنَاكَ، لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا أَوْ ثَوْبَيْنِ عَنْ يَمِينَيْنِ لَمْ يُجْزِ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَهُنَا الصَّوْمُ سِتَّةُ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ، لَا يُتَصَوَّرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنْ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُتَصَوَّرُ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ أُخْرَى، فَلِهَذَا جَازَ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَنْ كَفَّارَةٍ، وَوِزَانُ هَذَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ مَا لَوْ فَرَّقَ فِعْلَ الدَّفْعِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ إحْدَى

<<  <  ج: ص:  >  >>