للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ فِي الْحَرَمِ، وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْوَى حَتَّى يَخْرُجَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ.

فَإِنْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَهُوَ حُرٌّ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَأْخُوذًا بِالدَّارِ فَتَتَأَكَّدُ حُرِّيَّتُهُ بِالْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ.

وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَدَايَنَهُمْ أَوْ دَايَنُوهُ أَوْ غَصَبَهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبُوهُ لَمْ يُحْكَمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا إذَا غَصَبَهُمْ، فَلِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ فِي حَقِّنَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْمُسْتَأْمَنُ لَهُمْ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ، وَإِنَّمَا غَدَرَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ دُونَ أَمَانِ الْإِمَامِ فَيُفْتَى بِالرَّدِّ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ غَصَبُوهُ فَقَدْ غَدَرُوا بِأَمَانِهِمْ حِينَ لَمْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قَتَلُوهُ لَمْ يَضْمَنُوا فَإِذَا أَتْلَفُوا مَالَهُ أَوْ غَصَبُوهُ شَيْئًا أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ حِينَ فَارَقَ مَنَعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَمَّا فِي الْمُدَايَنَةِ فَهُمْ وَإِنْ خَرَجُوا بِأَمَانٍ لَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ عَلَيْهِمْ فِي مُدَايِنَةٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ، وَلَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ أَيْضًا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَيْثُ مَا يَكُونُ.

وَإِنَّ بَايَعَهُمْ الْمُسْتَأْمَنُ إلَيْهِمْ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً أَوْ بَايَعَهُمْ فِي الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزَمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ، وَمِنْ حُكْمِ - الْإِسْلَامِ حُرْمَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُعَامَلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُمَا يَقُولَانِ هَذَا أَخَذَ مَالَ الْكَافِرِ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ أَمْوَالَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إلَّا أَنَّهُ ضَمِنَ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ فَهُوَ يَسْتَرْضِيهِمْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ ثُمَّ يَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ بِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ، وَبِهِ فَارَقَ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِعَقْدِ الْأَمَانِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ، وَالْأَخْذُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ حَرَامٌ، وَتَمَامُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ.

وَإِنْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِنَا حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِ الْمُسْتَأْمَنِ، فَإِنَّهُ حَرْبِيٌّ حُكْمًا فَلَا يُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِي الْعِصْمَةِ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِصْمَةِ تَثْبُتُ مُوجِبَةً لِلتَّقَوُّمِ فِي نَفْسِهِ حِينَ اسْتَأْمَنَ إلَيْنَا.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُتَقَوِّمَةَ تَثْبُتُ فِي مَالِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِحْرَازِ حَتَّى يَضْمَنَ بِالْإِتْلَافِ

<<  <  ج: ص:  >  >>