للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَصْلِ الْجِلْدِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ.

يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا أَنَّ فَائِدَةَ وُجُوبِ الضَّمَانِ الِاسْتِيفَاءُ، وَلَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ قَدْرَ مَالِيَّةِ الدِّبَاغَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَيْفَ يَسْتَوْفِي مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ.

وَلَوْ ظَفِرَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا، فَإِذَا ظَفِرَ بِعَيْنِ حَقِّهِ فَاسْتَهْلَكَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ شَيْئًا، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ هَذَا الْقَدْرِ عَلَيْهِ انْفَصَلَ أَصْلُ الْجِلْدِ عَنْ صِفَةِ الدِّبَاغَةِ حُكْمًا فَيُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا حَقِيقَةً، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْجِلْدِ، وَهُمَا قَدْ اعْتَبَرَا هَذَا حَتَّى قَالَا: لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ غَيْرَ مَدْبُوغٍ.

(وَلَوْ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ عَيْنًا فَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لِلْغَاصِبِ أَبْرَأْتُكَ عَنْ الْغَصْبِ، ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ زُفَرُ هُوَ ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْعَيْنِ لَغْوٌ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَالْعَيْنُ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لَهُ إذْ لَا تَسْقُطُ حَقِيقَةً، وَلَا يَسْقُطُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهَا أَيْضًا، وَإِضَافَةُ التَّصَرُّفِ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ لَغْوٌ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ أَبْرَأْتُكَ عَنْ الْغَصْبِ أَيْ عَمَّا وَجَبَ لِي عَلَيْكَ بِسَبَبِ الْغَصْبِ بِمَنْزِلَةِ إبْرَاءِ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَإِبْرَاءِ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَنْ الْعَيْبِ، وَالْوَاجِبُ لَهُ بِسَبَبِ الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهِ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِهِ، وَذَلِكَ قَابِلٌ لِلْإِسْقَاطِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ بَقِيَ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ بَعْدَ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ صَحَّ الْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ.

(وَلَوْ) غَصَبَ جَارِيَةً فَحَبِلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَوَلَدَتْ ثُمَّ هَلَكَتْ بِالْوِلَادَةِ يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُقَوَّمُ حَامِلًا وَغَيْرَ حَامِلٍ، فَيَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ صَحَّ مَعَ الْحَبَلِ، وَلَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ بِعَيْبِ الْحَبَلِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ ضَمَانَ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا هَلَاكُهَا بِسَبَبِ الْآلَامِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الرَّدِّ وَهُوَ الطَّلْقُ، فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الرَّدِّ، كَمَا لَوْ حُمَّتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ أَوْ زَنَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ، ثُمَّ رَدَّهَا فَجُلِدَتْ وَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ إلَّا نُقْصَانَ عَيْبِ الزِّنَا.

وَكَذَلِكَ الْمَبِيعَةُ إذَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي، وَهِيَ حُبْلَى فَمَاتَتْ فِي الْوِلَادَةِ لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ نَسْخُ فِعْلِهِ بِالرَّدِّ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ رَدَّهَا لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبَضَهَا، وَلَمَّا هَلَكَتْ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ كَمَا لَوْ جُنَّتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَدُفِعَتْ فِي الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا أَصْلًا، بِخِلَافِ الْحُمَّى لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَكُنْ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>