للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَكَذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَا يُنْتَقَضُ بِالْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ، فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْمُضَارَبَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَلَا يُنْتَقَضُ الشَّيْءُ بِمَا هُوَ دُونَهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ مَنَافِعُهُ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْعَمَلُ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ، وَالْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى مَحِلٍّ لَا يُبْطِلُ عَقْدًا مُضَافًا إلَى مَحِلٍّ آخَرَ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَمَعَ بَقَاءِ الْإِجَارَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ الْأَجْرُ وَالشَّرِكَةُ فِي الْحَاصِلِ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ بِإِزَاءِ عَمَلِ نَفْسِهِ بِمَنَافِعَ هِيَ لَهُ، وَهُنَا مَنَافِعُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يُوجَدُ مَا هُوَ مُوجِبُ اسْتِحْقَاقِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّ الشَّرِيكَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمَالِهِ لَا بِعَمَلِهِ، فَبِالْإِجَارَةِ السَّابِقَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَنْعَدِمُ مَا بِهِ يَسْتَحِقُّ الشَّرِيكُ، وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِهَذَا الْعَمَلِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُضَارِبُ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَهُوَ بِعَمَلِهِ بِالْمَالِ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ هُنَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يُرَدُّ عَلَى مَنَافِعِهِ كَمَا قَالَ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَمَلُ، فَإِذَا وَجَدَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَانَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ.

وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَمَلِ يُقَامُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ كَالصَّدَاقِ؛ فَإِنَّهُ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا قَدْ يُقَامُ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي تَأْكِيدِ الْمَهْرِ بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا.

وَلَوْ كَانَ الْأَجِيرُ دَفَعَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مَالًا مُضَارَبَةً يَعْمَلُ بِهِ عَلَى النِّصْفِ جَازَ وَالْأَجِيرُ عَلَى الْإِجَارَةِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يُوجِبُ لِلْأَجِيرِ حَقًّا فِي مَنَافِعِ رَبِّ الْمَالِ وَلَا فِي عَمَلِهِ، فَدَفْعُهُ الْمَالَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بَعْدَ الْإِجَارَةِ كَدَفْعِهِ إلَيْهِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ اسْتَبْضَعَ رَبُّ الْمَالِ الْأَجِيرَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ، يَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَقَبَضَهُ الْأَجِيرُ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُسْتَبْضِعِ كَعَمَلِ الْمُبْضِعِ، كَمَا لَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَالْأَجْرُ عَلَى حَالِهِ لِلْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِذَلِكَ، وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ لَا يَفْسُدُ هُنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ.

فَأَمَّا الْإِبْضَاعُ فَلَا يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ لِتَمَكُّنِ الْمُضَارِبِ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْمَالِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ.

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ رَبُّ الْمَالِ، عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَجْرًا: عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ فَهَذَا الشَّرْطُ يُفْسِدُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ بِغَيْرِ أَجْرٍ فَسَدَ الْعَقْدُ، فَإِذَا شَرَطَ عَمَلَهُ مَعَ الْمُضَارِبِ كَانَ أَوْلَى، وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>