للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الهزيمة والهوان، وهو أمر ضد الدين وضد الرجولة. وتطوير هذه الفكرة عند ابن العنابي، على النحو الذي سبق، يتماشى تماما مع ما كان يأخذ به محمد علي والي مصر. فقد كان لا يكتفي بتقليد الأروبيين فيما اخترعوه بل كان يأتي بهم ليعلموه إلى المسلمين أو يبعث بهؤلاء إليهم في مواطنهم. فابن العنابي في الواقع كان يبارك هذه السياسة من محمد علي ويقنع الناس بها. فكتابه إذن من كتب الدعاية، إذا صح هذا التعبير. وإذا عرفنا أنه أيضا كان يشيد بالخطوات التي قطعتها الدولة العثمانية بهذا الصدد عرفنا أنه كان يبارك أيضا اتجاهها نحو التجديد. وها نحن نورد نص عبارته في ذلك المعنى ملاحظين أنه، خلافا لبعض النصوص السابقة، لم يستعمل فيها السجع، ولكنه احتفظ فيها بالجملة الطويلة المعقدة، ولا سيما الجملة الأخيرة من الفقرة:

(. وإنهم (يعني الكفار - الأروبيين) إذا ابتدعوا من أدوات الحرب وصنائعه أمرا له موقع لا نؤمن من استطالتهم به علينا، لزمنا بذل الوسع في تعلمه وإعداده لهم والاجتهاد في مجاوزتهم فيه. وإنه إذا لم يكن استعلام ذلك إلا من قبلهم، وجب استعلامه منهم لأنه مستطاع لنا. وإنهم إذا أعدوا لنا صواعق البارود فأعددنا لهم القصى والمنجنيق، اللذين صارا اليوم كالشريعة المنسوخة، أو اقتصرنا على السيوف والبندقيات، أو شمروا لنا الثياب فأعددنا للقائهم الثياب المجررة والأكام المطولة، والعمائم المكبرة لم نخرج عن عهدة الأمر، ولزمنا الإثم والعار، فلا غرض الشارع حصلنا ولا سبيل الرجولية سلكنا) (١٦).

ونحب أن يتأمل القارىء في هذه المقابلات والصور التي يجريها ابن العنابي في كلامه. فصواعق البارود تقابلها القصى والمنجنيق، والتشمير على الثياب تقابلها الثياب المجررة، والعمائم المكبرة والأكمام المطولة. وصورة اتباع الشرع تقابلها البوء بالإثم، وصورة الرجولة يقابلها العار. وهكذا. كما أن عبارة (الاجتهاد في مجاوزتهم فيه) تبرهن على أن المؤلف لا يدعو إلى التقليد فقط ولكن إلى القوة والتفوق. واعتباره الأسلحة القديمة (القصى والمنجنيق).


(١٦) نفس المصدر، ص ١١ - ١٢.

<<  <   >  >>