للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذه الشاة يا أم معبد؟) قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: (هل بها من لبن؟) قالت: هي أجهد من ذلك، قال: (أتأذنين لي أن أحلبها؟) قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها.

فدعا بها رسول الله Object فمسح بيده ضرعها، وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت، فاجترت (١) فدعا بإناء يربض (٢) الرهط، فحلب فيه ثجًّا حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم حتى أراضوا (٣) ثم حلب فيه الثانية على بدء حتى ملا الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها -يعني على الإِسلام- ثم ارتحلوا عنها، فقل ما لبثت حتى جاءها زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا، يتساوكن هزالا مخهن قليل.

فلما رأى أبو معبد اللبن أعجبه قال: "من أين لك هذا يا أم معبد، والشاء عازب حائل ولا حلوب في البيت؟ " قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال: "صفيه لي يا أم معبد؟ ".

قالت: "رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه، حسن الخلق لم تعبه تجلة، ولم تزريه صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته سهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد, وأحسنه وأجمله من قريب. حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كان منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا تشنأه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال سمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.

قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولقد هممت أن أصاحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا، وأصبح صوت بمكة عاليًا، يسمعون الصوت، ولا يدرون صاحبه، وهو يقول:


(١) تفاجت: فرجت رجليها للحلب.
(٢) يربض الرهط: يبالغ في ريهم ويقلهم حتى يلصقهم بالأرض.
(٣) أراضوا: كرروا الشوب حتى بالغوا في الري.

<<  <   >  >>