للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لنال بها الجائزة، يغني بصوت تخاله -والعياذ بالله- صوت ثلاثة حمير تنهق معاً، على نغمة (الجازبند) نهيقاً مقلوباً، كأنه صواخ الجن في الأودية المسحورة، أو نواح المَرَدة في قعر الجحيم، أو هو شيء أفظع من ذلك كله: هو الغناء الإفرنجي! وهو ينشد شعراً لا تفهم له وزناً ولا قافية ولا معنى ولا تجد فيه طرباً ولا متعة ولا لذة، فكأنه شعر بشر فارس (١).

فلما اقترب مني لم أجد أحسن من الفرار، فنزلت من الترام عند الشارع الذي كان اسمه أيام الاحتلال «شارع مستشفى اللادي كرومر»، وكنت أنا المصري الأصل، الدمشقي المولد والبلد، أتكلم وأقول ماذا يكون لهذه التسمية من ألم في نفوس المصريين أصلاً ومولداً وبلداً، وهي تذكرهم بأعدى عدو لهم، وتمنّ عليهم بمستشفى أنشأته زوجته ببعض ما سرقت من مال مصر، مع ما أصيبت به مصر على يد زوجها وقومه، من ذهاب الأنفس والأموال، ومن ضياع الحرية وهي أعز على الأبيِّ من النفس والمال، وأنا أوثر أن أموت في العراء (إن لم يكن إلا هذا المستشفى)، على أن أشفى فيه، لأن شفاء أجسامنا فيه، يمرض وطنيتنا، بمحبة هذه (اللادي) وذكرها بالخير، وعرفان الجميل لها. فلما تنبهت مصر، وذهبت تخطب أهل الأرض من فوق منبر مجلس الأمن، تعرفهم ظلم الإنكليز إياها، وعدوانهم عليها، رفع الشباب هذه اللوحة ووضعوا مكانها لوحة سمَّوه فيها «شارع دنشواي»، وأشهد لقد كانت تسمية عبقرية، وكان ردّاً بارعاً، وكان جواباً لا يصدر إلا عن إلهام.

ووجهت «المنظار» إلى هذه اللوحة الجديدة، أمتع بها روحي، وأنعش نفسي، فلم أجدها، ووجدت اللوحة القديمة قد جددت، فمسحت «المنظار» ونظرت فلم أر غيرها، فرفعته عن عيني ونظرت، فإذا أنا أجد اللوحة القديمة قد جددت حقاً.


(١) لو أني كتبت هذه المقالة الآن لا قبل أربعين سنة، لقلت: إنه مثل شعر (الحداثة) الذي يشبه (الحدث) الأكبر ولكن لا يطهره شيء، ولا الغسل سبعاً إحداهن بتراب المقبرة الذي يتمنون أن يدفنوا فيها (الشعر).

<<  <   >  >>