للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكانت القرية كلها في أمن ودعة حتى نزل بها ذلك الرجل، فنزل بها البلاء وهبطت المصائب، وتعكرت حياتها الصافية كأنما هي بركة ساكنة سقطت عليها صخرة من الجبل. كانت القرية في ذلك الصباح مستلقية في فراش أمنها ترشف بقية أحلام الليل، لتنهض مع الشمس فتعمل على تحقيقها، وكانت الغابة تصلي وقد شمرت أشجار الصنوبر للعبادة عن سوقها، ووقفت بين يدي باريها صفوفاً، وقامت الطير تتلو صلواتها على منابر الأغصان، ووقف الورد والزنبق في الحدائق خاشعاً مصغياً، وسبّحت السواقي فكان لتسبيحها وسوسة دائمة جميلة، وأصاخ الجبلان وصمت الوادي ... فلم يُفسِد هذه الصلاة الخاشعة في معبد الطبيعة إلا صرخة تدوي بين الجبلين يحملها صوت مبحوح، كأنه صوت جريح ينضح صراخه بدمه فيُسمع الصوت أحمر قانياً يقطر دماً. وتوالت الصيحات الحمر وازدادت شدة وهولاً، فحملت الذعر إلى بيوت القرية وأرباضها وأوكارها، وأبدلتها بصباحها الباسم صباحاً كالح الوجه مربدّاً قبيحاً. وذهب القوم يستقرون الصوت ويقصّونه، فرأوا قساً من القسوس مكشوف الرأس، منفوش الشعر، قد لبس المسوح وطفق يلقي عليهم - باللاتينية تارة وبالفرنسية تارة أخرى - ما يفهمون وما لا يفهمون. وكان يتكلم باكياً نادباً ناتفاً لحيته، منذراً بفناء النصرانية وضياع الدين، ويدعو إلى إنقاذ «القبر المقدس» من أيدي «الكفرة المسلمين ...». فذهب الهياج بالعقول، وأطار الأفئدة، وألغت الحماسة المنطق، ونسي الناس كل شيء إلا هذه النار التي قد سرت في العروق، ومشت إلى الدماغ فألهبته، فنهضوا يتبعون الراهب إلى حيث لا يعلمون، إلى إنقاذ «قبر المسيح» من أيدي «الكفرة» الذي أهانوه وحقّروه.

<<  <   >  >>