للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وشد من عزمه، وصاح بها: «لست أفعل، ولا أحرق حشاشتي بعد ستٍّ وثمانين سنة».

قال الطبري: «ثم سكت وسكتت المرأة، وانصرفت أنا».

* * *

وأذن المغرب، وقعد الشيخ ونساؤه على كسيرات وتمرات التقطها لهم، وقعد الناس من حولهم على الموائد الحافلات بشهي الطعام، تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء، يأكلونها ويستمتعون بها وينسون أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار، وأن الله ما فرض علينا الصيام للجوع والعطش والعذاب، ولكن ليذكّرنا هذا الجوعُ الاختياري الموقوت أن في الدنيا مَن يجوع جوعاً إجبارياً لا حد له ينتهي عنده، وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا مذكر بالإحسان. فمَن يقعد إلى مائدته الحافلة بالطعام وجاره يتلوى من الجوع، لا يفكر فيه ولا يشاركه طعامه، فما صام ولا عرف الصيام، وإن جاع نهاره كله وعطش.

إن العادة تضعف الحس، وإن أُلْفَ النعم يذهب لذتها، فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقد فنعرف حلاوة الوجدان، ولنشتهي في النهار اللقمة من الخبز الطري والجرعة من الماء البارد، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية وهذه الجرعة الباردة نعمةٌ من النعم، فلا ندع الإحسان مهما كان قليلاً، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها. ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه، فكان يترك منه كل يوم لقمة، حتى إذا كان يوم الجمعة أكل هذه اللقم وتصدق بالرغيف.

<<  <   >  >>