للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مصلحة. ومن دقَّق في اجتهادات الخلفاء الراشدين وجد أنهم يدورون مع المصلحة أينما دارت. هذا عمر، رضي الله عنه، علم أن المصلحة المرادة من إعطاء المؤلَّفة قلوبهم سهماً من الزكاة إنما هي تقوية الإسلام وإعزازه، فلما حصلت المصلحة وعزَّ الإسلام أسقط سهم المؤلفة. وهذه مسألة طلاق الثلاث بكلمة واحدة كان يقع واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر فرأى عمر أن المصلحة (في أيَّامه) في إيقاعه ثلاثاً فأوقعه مع أن الآية صريحة في أن الطلاق مرتان (وقد عادت المصلحة اليوم في إيقاعه طلاقاً واحداً والرجوع إلى الأصل المعروف من الكتاب والسنَّة). وعطَّل عمر حدَّ السارق في عام المجاعة. وهذا عثمان جمع الناس على حرف واحد من حروف القرآن، لأن المصلحة تقتضي هذا الجمع. والحكومة الإسلامية التي يؤمَّل منها تحقيق هذا المشروع العظيم هي مصر وحدها، لأنها الحكومة الإسلامية الكبيرة، ولأنها وحدها التي ينصُّ دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام، ولأن فيها الأزهر المعمور وفيها العلماء، ولأن فيها اتجاهاً إسلامياً قوياً ظهر في السنين الأخيرة، ودعوة قوية إلى استبدال القوانين الإسلامية بالقوانين الأجنبية.

ولو أني وجَّهت هذه الدعوة قبل عشر سنين مثلاً لعرضت لها المعارضة من ناحيتين: ناحية المشايخ الجامدين، وناحية الشباب الجاحدين. أما الأول فلأنهم كانوا يعتقدون أن الاجتهاد سدَّ بابه إلى يوم القيامة (١)، وأن الفقهاء لم يدعوا شيئاً إلا بيَّنوا حكمه مع أن المسألتين مردودتان، لأن سدَّ باب الاجتهاد معناه الحظر على الله أن يخلق مثل أبي حنيفة، وهذا محال. وما دامت الأرحام تمتلئ، والنساء تلد، فليس مستحيلاً أن ينشأ مجتهدون وأئمة ونابغون يفوقون الأولين - ولأن الفقهاء وإن بذلوا الجهد، وفرضوا في كثير من المسائل أبعد الفرضيات، وبيَّنوا حكمها، فإن من البديهي أنهم لم يتكلموا في المسائل التي ظهرت الآن ولم يعرفوها. وإذا كان الإمام الشافعي قد غيَّر رأيه في أكثر مسائل المذهب، حين


(١) لا لم يسدَّ بابه، ولكنه لم يفتح كذلك للناس جميعاً، لكل من استطاع أن ينظر في كتب الحديث، ويعرف درجاتها وأسماء رواتها.

<<  <   >  >>