للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومقتل قائد واحد خلال لحظات قليلة كفيل أن يعيد النظر في المواجهة حيث كان الأمر الثاني جعفر بن أبي طالب. لكن شوق الجنة هو الذي حدا بجعفر رضي الله عنه أن يقتحم عن فرسه الشقراء ويتراقص فرحا بالجنة وهو يواجه العدو:

يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها

عليَّ إذ لاقيتها ضربها

واستشهد القائد الثاني فجرى بعض الفتور في هذه الروح المعنوية عند ابن رواحة، وكان الفرق واضحا بين طلبه الشهادة وهو في المدينة وبين معاينتها وهو في مؤتة. لقد كانت الرؤى الشعرية الوجدانية عنده أقوى من الواقع العملي. فراح يبرز خلجات نفسه في هذا الحديث الرائع

أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه

قد طال ما قد كنت مطمئنة ... مالي أراك تكرهين الجنة

ولم يكتف بهذا الحديث النفسي، فراح ينقل حديثا آخر:

يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد لقيت

إن تفعلي فعلهما هديت ... أو تعرضي عنهم فقد شقيت

ولكن مهما تزعزع القائد إذا كان له من إيمانه ما يعصمه. فلابد من الثبات بعد ذلك وهذا ما جرى لدى ابن رواحة فقد طغى التدفق الإيماني عليه، وانخرط في القتال حتى قضى شهيدا في سبيل الله.

وكانت الأزمة الأخيرة، وهذه الروح المعنوية العالية كفيلة أن تحطم أي روح مهما سمت، وبعد مقتل الأمراء الثلاثة وانتهاء القيادة من المعركة. لم يعد إلا ذبح هذا الجيش كله. فمن هؤلاء من مضى لائذا بالفرار إلى المدينة لكن أكثرية الجيش عادت فتمالكت. وأخذ الراية ثابت بن أقرم رضي الله عنه، وهو يحس بثقل الأمانة.

(وصاح: يا للأنصار. فأتاه الناس من كل وجه وهم قليل، وهو يقول: إلي أيها الناس فلما نظر إلى خالد بن الوليد قال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه أنت أحق به، أنت رجل لك سن، وقد شهدت بدرا قال ثابت: خذه أيها الرجل. فوالله ما أخذته إلا لك فأخذه خالد ..) (١)

وهكذا استطاع هذا الجيش المسلم أن يواجه ذلك البحر المتلاطم من البشر بتلك الروح


(١) امتاع الأسماع ج ١: ٣٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>