للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما استمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سب آلهتهم عادوا إلى شر ما كانوا عليه، وازدادوا شدة على من أسلم. فلما قرب مهاجرة الحبشة من مكة وبلغهم أمرهم توقفوا عن الدخول، ثم دخل كل رجل في جوار رجل من قريش. ثم اشتد عليهم البلاء والتعذيب من قريش، وسطت عليهم عشائرهم، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره، فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية فخرجوا. فكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب، فكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا إن كان فيهم عمار بن ياسر فإنه يشك فيه، قاله ابن إسحاق. ومن النساء تسع عشرة امرأة ... (١)).

وهكذا نجد أن الثقل الكبير للمسلمين قد انتقل إلى الحبشة فأن يغادر مكة ثلاثة وثمانون رجلا وتسع عشرة امرأة يعني هذا أن قوة ضخمة وتجمعا كبيرا قد قام في قطر آخر وبعيد عن مكة وعن متناول يدها يستطيع أن ينتشر ويتضخم ويهدد وجود مكة ذاتها.

وهذا المنطلق لم يكن ليغيب عن ذهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو البحث عن قاعدة صلبة ومكان آمن آخر للدعوة غير مكة. حيث لا تستطيع قريش مهما بلغ من عتوها أن تنهي الوجود الإسلامي في الأرض، وهذا ما يحسن أن تنتبه الحركة الإسلامية إليه في تخطيطها حيث لا تضع كل طاقاتها البشرية والمادية في أرض واحدة، تكون معرضة فيها للإبادة، بل تعدد أماكن تجمعها وتواجدها، بحيث تستطيع لو فقدت موقعا معينا أن تنتقل إلى موقع ثان تنطلق منه وتواجه الجاهلية من خلاله.

ولا شك أن مغادرة الشباب الإسلامي مواقعه وأماكنه إلى أرض جديدة، يعاني فيها آلام الغربة والوحشة عن الأهل والوطن، هو أمر صعب وتضحية كبيرة. لا تتحقق إلا إذا كان هذا الشباب على مستوى من الإيمان العظيم يتجاوز به هذه العقبات. وأن تكون عقيدته وحبه لها أكبر من حبه


(١) السيرة النبوية لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص ٨٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>