للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[ذكر الوقعة الكبرى]

واصبح الفرنج يوم الأربعاء العشرين من شعبان؛ وقد رفعوا الصلبان، وزحفت أسودهم في غاب المران، وطارت بهم خيولهم عقبانا على عقبان. وجرت بالجبال منهم رياح، وجالوا دون التل كأنهم له وشاح. وخرجوا على العتبية، وشفعوا نداء الكفر يالتلبية، وشعفوا بالتبرية للتربية. وتقدموا معتزمين، وعزموا مصممين. وثاروا ثورة الشيطان، وفاروا فورة الطوفان، وقدموا الراجل أمام الفرسان. وزحفوا اطلابا، وحفزوا طلابا. ودبوا دبيب الليل إلى النهار، وهبوا هبوب الخيل إلى المضمار، واجروا سيول السوابق إلى القرار، وجروا ذيول السوابغ إلى الغوار. وتخركوا وهم هضاب، وتدركوا وهم غضاب، وما زالت ميسرتهم تكثر وتكثف؛ وتعطوا وتعطف؛ وتفور وتثور؛ وتزود وتدور؛ وتهم وتهمهم؛ وتدمدم

وتدوم.

وقد عبى السلطان ميمنته وميسرته، وطلب من الله نصرته. وثبت قلبه وقلبه ثابت، وحزبه في صف الحرب نابت، ورعبه لكبة العدو كابت. وهو يمر بالصفوف، ويأمر بالوقوف. ويحض على حظ الأبد، ويحث على الجلاد والجلد. ويثوب للوثوب، ويندب إلى الندوب.

ولما شاهد شروق بروقهم، وخروق مروقهم؛ وكثافة ميسرتهم؛ وحشو حشود كثرتهم؛ أنهض رجال القلب لتقوية ميمنته على الحرب. وكان الملك المظفر تقي الدين من الميمنة على الجناح، في جمع يعثر بعثيره وارد الصباح. وكلما تقدموا تأخر يستجرهم، ويحذر مكرهم ومكرهم فعرفوا أنهم لا قبل لهم لمقابلته، وأن هذا ليس ميقات مقاتلته. فتركوه واستقبلوا القلب، وزخر بحرهم وعب. وحملوا حملة دوي منها الدو، واسود منها جوى الجو.

ووصلوا إلى جموع ديار بكر والجزيرة، وغاصوا في لجتها بغدران السوابح والسوابغ الغزيرة. وكانت من القلب على الجناح للطيران، وجبالها على الرياح للجريان. فعرفوها بالغرة، واستضعفوها لدى الكرة. وألموا بها فما ألمت، وهموا بها فما همت، واندفعت وما دفعت، وتراجعت وما رجعت، وتعكست وما عكست، وأدبرت وما تدبرت. ولكنوها غير عارفة بقتال الفرنج هابت وما هبت، ولابت ومالبت، ورابت وماربت.

وجاءوا إلى القلب وقلبوه، وحاربوه وحربوه. وخربوا حزبه، وخرقوا حجبه. وهنالك استشهد كرام باعوا أنفسهم بالجنة، وأسنوا نحورهم نحو الأسنة. منهم: (الأمير مجلي بن مروان) - وكان مجليا في المروة، و (الظهير أخو الفقيه عيسى) - وكان ظاهر الفتوة. وآخرون اعترفوا بذنوبهم، فرحضوا بماء الشهادة درن حوبهم. وصعدوا إلى مخيم السلطان، طامعين في استطالة حزب الصلبان.

وكنت في جماعة من أهل الفضل قد ركبنا في ذلك اليوم، ووقفنا على النل نشاهد الوقعة وننتظر ما يكون من القوم. وما ظننا أن القوة تهى، وأن الواقعة إلينا تنتهي.

<<  <   >  >>