للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيها رجال مسلمون ونصارى من أهل بيروت.

وأرادوا أن تشتبه ببطس العدو في البحر، وألا ينكشف للفرنج ما لها من الستر، فتصوروا رهبانا، وصوروا صلبانا. ومسحوا لحاهم، ومسخوا حلاهم. وتملطوا وتكوفوا، وتشبهوا بهم في كل بزة لئلا يتخوفوا. وشدوا زنانير، واستصحبوا خنازير. وساروا بها في البحر بمراكب الفرنج مختلطين، وإلى محاجثتهم ومجاذبتهم منبسطين. والقوم لجهلهم، لا يشكون أنهم من أهلهم. ونسوا الحادث وأنسوا بالحديث، وتصور الطيب بصورة الخبيث.

فلما حاذوا بعل عكاء صوبوها نحوها، والريح تسوقها. والفرنج تدعوهم من مراكبها وتقول ما هذه طريقها، وهي كالسهم النافذ قد سدد فوقها، وقد عقت رفقتها؛ وهي تكاد تعوقها. فدخلت الثغر، وأدخلت إليه كل خير، وعجب الناس منها ومما تم لها من حيلة في سير. واجتزأ البلد بها شهرا، ووجد منها لكل كسر جبرا. فيا لها من لطيفة قضينا منها الأرب، ولم نقض منها العجب.

[ذكر وصول بطس الغلة من مصر إلى عكاء ظهر يوم الاثنين رابع عشر شعبان]

كان السلطان قد كتب إلى النواب بالإسكندرية على وجه الاستظهار، بأن يشرعوا في تجهيز البطس الكبار. ويملئوها بالغلات وأصناف الأقوات، ويعمروها بالكماة الحماة الرماة. ويرسلوها عند موافقة الريح إلى الثغر، فإن خلصت إليه ولو واحدة منها أغنته بعد الفقر. وتمادت الأيام على هذا الأمر، واستبعد وصولها مع امتلاء البحر بمراكب الكفر. وكاد اليأس يغلب، والرجاء يضطرب.

ووردت كتب أصحابنا بعكاء إنه لا يبقى لنا ليلة نصف شعبان قوت، ولاشك أن كتاب أجلنا إلى هذا الأمد موقوت. فأشفقت النفوس، واستشعر البوس. وألمت

القلوب، وألمت الكروب. ولجأنا إلى الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ولا يخيب من رجاه، ولا يضيع من استرعاه.

فلما كان ظهر يوم الاثنين رابع عشر شعبان، ظهرت من أقصى اللجة ثلاث بطس كأنهن الاعلام، واستبشر بظهورها الإسلام، وقد زفت عرائس جواريها الحسان، وخفت رواسي سواريها الثقال، وذكرت بقوله تعالى (وهي تجري بهم في موج كالجبال). والريح تطردها طرد النعام، والماء يرسلها على رغم أهل النار الذين هم أضل من الأنعام.

فما تراءت حتى استقبلتها مراكب الفرنج وشوانيها، وأحاطت بها تقاتلها من أقاصيها وأدانيها. وهي تشق عليها وتشقها، وتعوقها عنها وتعثها، حتى برت منها لبر الإيمان. وهزأت بتلك الأكمات المطيفة بها جبالها الرعان. وعبرت

<<  <   >  >>