للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بعد أيام، ينكر ما شاع من تأمر للفرنج عليه وأحكام. وقال: الأمور مفوضة إلى: وأنا أحكم ولا يحكم علي. وإنما تأخرت بسبب مرض عرض، فأفاتني الغرض.

ثم قال الرسول: من عادات الملوك المهاداة، وإن دامت بينهم الحرب والمعاداة. وعند الملك ما يصلح فهل تأذنون في حمله وقبوله، وأخذه من يد رسوله؟. فقال الملك العادل فقبل الهدية بشرط المجازاة، واستدامة المكافأة للموازاة. فقال: عندنا بزاة وجوارح، قد لقيتها في سفر البحر جوائح، وقد ضعفت فهي طلائح روازح، وتريد طيرا ودجاجا تصلح لطعمهما، فإذا استوت حملناها للهدية على رسمها، فقال العادل: لا شك أن الملك مريض وقد احتاج إلى دجاج وفراريج، ونحن نحمل له منها كل ما إليه احتيج، فلا تجعل حاجة طعم البزاة في طلبها حجة واسلك غير هذه المحجة محجة.

وانفصل حديث الرسالة على قول الرسول: هل لكم حديث؟ فقلنا: وأنتم طلبتمونا

لا نحن طلبناكم، وما لنا معكم حديث قديم ولا حديث. ثم انقطع حديث الرسالة إلى يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة. فخرج من عند الملك في الرسالة مقدم، ومعه أسير مغربي مسلم. وأحضره على سبيل الهدية، وأوصل إلى السلطان ما حمل من التحية. فشرفه بخلعته، واعتدله بهديته.

ثم خرج يوم الخميس تاسع الشهر رسل ثلاثة، وما كانت رسالتهم تسفر عن مقصود بل فيها رثاثة وغثاثة. وهؤلاء طلبوا للملك فاكهة وثلجا، ولم يسلكوا في غير هذه الحاجة نهجا. فأكرمهم السلطان بما سألوا، وفر لهم منه فحملوا. وسألوا أن يتفرجوا في الأسواق، ففسح لهم فيه على الإطلاق.

[ذكر ضعف الثغر من قوة الحصر]

وكان غرض الفرنج من تكرير الرسالات؛ تفتير العزمات، وهم مشتغلون بموالاة الرمى بالمنجنيقات، وتسوية المنصوبات، وتعبية الآلات وتعديل العرادات، وتثقيل الحجارات. حتى تحلحل السور وحان انهدامه، وتخلخل وبان انثلامه. وتزعزعت أركانه، وتضعضعت ابدانه. وكاد يهى ليهوى، ولا يقي ولا يقوى كي يثوى. وأهل المدينة قد كثر تعبهم؛ لكثرة النوب ولقلة العدد. والحجر هاتك، والسهر ناهك. والعمل دائم، والخلل لازم. والقلوب قلقة، والظنون مخفقة. والمتاعب شاقة، والمشاق متعبة، والأحوال متصعبة، والأهوال مرهبة.

وكانت في البلد منجنيقات تنصب، وتفيض بها قوى الرجال وتنصب. فلما اشتد الزحف، وزاد الضعف؛ احتاجوا إلى رجال المنجنيق للمقاتلة، والتناوب على المنازلة. وهناك ظهر أن العدد لا يقي ولا يفي، وأن القليل لا يكف ولا يكفي. وأن خروج من كان في البلد لأجل دخول البدل لم يكن صوابا، وأن تقصير النواب ابتداء في الاعطاء جلب في الانتهاء أعطابا.

<<  <   >  >>