للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما حضرت بين يديه قال لها: يا بنية، إني قد أصبحت في حيرة من أمري، قالت: وما خبرك؟ قال: قد خطبك جميع ملوك الأندلس ومتى أرضيت واحدا أسخطت الباقين. قالت: اجعل الأمر لي تخلص من اللوم. قال: وما تصنعين؟ قالت: أقترح لنفسي أمرا فمن فعله كنت زوجته، ومن عجز عنه فليس يحسن به السخط، فقال: وما الذي تقترحين؟ قالت: أقترح أن يكون ملكا حكيما. قال: نعم الذي اخترته لنفسك.

فكتب في أجوبة الملوك الخطاب: أني قد جعلت الأمر إليها فاختارت من الأزواج الملك الحكيم. فلما وقفوا على الأجوبة سكت عنها كل من لم يكن حكيما، وكان في الملوك رجلان حكيمان، فكتب كل واحد منهما إليه أنا الملك الحكيم، فلما وقف على كتابيهما قال: يا بنية بقي الأمر / على اشكاله، وهذان ملكان حكيمان أيهما أرضيت أسخطت الآخر، قالت: سأقترح على كل واحد منهما أمرا يأتي به، فأيهما سبق إلى الفراغ ممّا التمسته، تزوجت به، قال: وما الذي تقترحين عليهما؟ قالت: إنا ساكنون بهذه الجزيرة، وانا محتاجون إلى رحى (١٤) تدور بماء، وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذب الجاري إليها من ذلك البر، ومقترحة على الآخر أن يتخذ لي طلّسما يحصن به جزيرة الأندلس من البربر (١٥).

فاستظرف أبوها اقتراحها وكتب إلى الملكين بما قالته ابنته، فأجابا إلى ذلك، وتقاسماه على ما اختارا، وشرع كل واحد في عمل ما قبله من ذلك. فأما صاحب الرّحى فإنّه عمد إلى خرز عظيمة اتخذها من الحجارة، ونضد بعضها إلى بعض في البحر المالح الذي بين الأندلس والبر الكبير، في الموضع المعروف بزقاق سبتة وسد الفرج التي بين الحجارة بما اقتضته حكمته، وأوصل تلك الحجارة من البر إلى الجزيرة (١٦)، وبقيت آثارها في الزّقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء، وأكثر أهل الأندلس يزعمون أن هذا أثر قنطرة كان الاسكندر قد عملها ليعبر النّاس عليها من سبتة إلى الجزيرة والله أعلم بأصح القولين، فلما تمّ تنضيد الحجارة للملك الحكيم، جلب إليها الماء العذب من موضع عال في الجبل بالبر الكبير، وسلّطه على ساقية محكمة، وبنى بجزيرة الأندلس رحى على هذه / الساقية (١٧). وأما صاحب الطلسم فإنه أبطأ عمله


(١٤) رحى بضم الراء، صيغة جمع وواحدها رحى بفتح الراء.
(١٥) في ت: «البربر والعرب».
(١٦) في ت: «تلك الجزيرة».
(١٧) في ت: بعدها «وأتمها».