للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قالوا: نحاربك بسهام الأسحار ونسلّ عليك سيوف الدعاء، فقال: والله لا أطيق ذلك ولكن أنظروني حتى أنظر بلدا أنتقل بهم إليها ولا تتضرّرون بي وكفّوا عني سهام دعائكم، فبنى مدينة سمّاها (سرّ من رآى) (٩٠) بقرب بغداد وانتقل إليها سنة عشر ومائتين (٩١).

وللمعتصم عدة غزوات مع الكفّار من أشهرها غزوة عمّورية (٩٢)، ظهرت له فيها اليد البيضاء ونصر فيها الملّة المحمّدية، وملخّصها أن ملك الرّوم إذ ذاك من أكبر ملوك النّصارى أرسل كتابا إلى المعتصم يهدّده، فاستشاط المعتصم غضبا، وأمر بجوابه فكتب له الجواب، فلم ترضه عدّة كتب كتبوها فمزّق الكتاب الذي ورد عليه، وأمر أن يكتب في ظهر قطعة منه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الجواب ما تراه لا ما تقرؤه، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدّارِ} (٩٣)، وتجهّز من ساعته فمنعه المنجمّون وقالوا له: إنّ الطالع نحس، فقال لهم: هو نحس عليهم لا علينا، وسار يومه وتلاحقته العساكر (٩٤)، ووقع حرب عظيم قتل فيه سبعين ألفا وأسر منهم ستين ألفا، وهرب ملكهم، وتحصّن بحصن عمّورية، فحاصره المعتصم، ونزل به إلى أن فتحها، وأسّر ذلك الملك الكافر وقتله وكان ذلك من أعظم فتوح الإسلام.

ولكن شان ملكه بالتعصّب لأخيه في القول بخلق القرآن ولولا سابق القضاء والقدر لما دخل في هذه المضائق / وهو أمّي، ووصلت هذه البدعة حتى لبلاد المغرب، ودافعها رجال السّنة كمحمّد بن سحنون - رضي الله تعالى عنه - وأضرابه، حتى أخمد الله نارها وانقطع شرارها بموت أشرارها، وانطمست آثارها بهلاك فجّارها.

ولمّا احتضر قال: اللهم [إنك تعلم] أني أخافك من قبلي، ولا أخافك من قبلك، وأرجوك من قبلك، ولا أرجوك من قبلي، فيا من لا يزول ملكه، إرحم من زال ملكه، وتوفي - رحمه الله - يوم الخميس لإحدى عشر ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين (٩٥).


(٩٠) أي سامرا. مروج الذهب ٣/ ٤٦٦.
(٩١) ٨٣٥ م. أنظر الحديث الكامل لابن الأثير ٨/ ٤٥١.
(٩٢) مروج الذهب ٣/ ٤٧٢ - ٤٧٣.
(٩٣) سورة الرعد: ٤٢. وفي قراءة: «وسيعلم الكفار. . .».
(٩٤) والسبب الذي ذكرته المراجع التراثية يختلف عما قدّمه مقديش، ففي مروج الذهب ٣/ ٤٧٢ - ٤٧٣، وفي تاريخ الطبري ٩/ ٥٧ - ٧١، يرجع سبب هذا الفتح إلى خروج «توفيل ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام واضراره بأهل زبطرة وغيرها».
(٩٥) ٧ جانفي ٨٤٢ م أنظر الكامل لابن الأثير ٦/ ٥٢٤ ومروج الذهب ٣/ ٤٥٩.