للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في حفرة وطمّ عليه التراب وأسقط المكوس في أيّامه، ورفع الظّلم عن رعيّته فجدّد ملك بني العباس بعد ما وهى ووهن وأظهر عزّ الملك، فكان يسمّى السّفاح الثاني حيث جدّد كلّ منهما ملك بني العباس، ومع ذلك كان يتوخّى العدالة، ويظهر أمورا في صورة الجبروت والعنف، وهو في الباطن محقّ فيما يفعله، وهذا هو الرأي السّديد للحاكم الرّشيد لجمعه بين سياسة الدنيا والآخرة بمراعاة ما هو حقّ عند الله تعالى.

نقل الحافظ السيوطي - رحمه الله تعالى - في «تاريخ الخلفاء» عن عبد الله بن حمدون قال (١٤٨): «خرج المعتضد للصّيد يوما وأنا معه فمرّ بمقثأة، فدخلت بعض خيوله فيها، وصاح صاحبها بالمعتضد، فأحضره وسأله عن سبب صياحه، فقال: ثلاثة من غلمانك نزلوا المقثأة فأخربوها، فأمر عبيده بإحضارهم، فضرب أعناقهم ومضى وهو يحدّثني، ثم قال: أصدقني يا عبد الله ما الذي ينكر الناس علي من أحوالي؟ قلت:

تسفك الدماء كثيرا، فقال: ما سفكت دما حراما قط منذ ولّيت الخلافة، / فقلت: لم قتلت أحمد بن الطيّب؟ فقال: إنه دعاني إلى الإلحاد، وظهر لي منه الإلحاد فقتلته لنصرة الدّين، قلت: فالثلاثة الذين نزلوا المقثاة الآن بم استحللت دماءهم ولأي شيء قتلتهم؟ فقال: والله ما قتلتهم وإنما أحضرت ثلاثة من قطاع الطريق وأوهمت الناس أنهم هم الذين نزلوا المقثأة وأمرت بضرب أعناقهم، (ثم انه أحضر صاحب الشرطة فأمره بإحضار الثلاثة الذين نزلوا المقثأة فأحضرهم بأنفسهم وشاهدتهم، ثم أمر بإعادتهم إلى الحبس) (١٤٩).

وهكذا ينبغي تدبير السياسة وإظهار النصفة وتخويف الجند وإرهابهم، وأبطل المواريث مما كانوا يأخذونه ظلما، وكتب به إلى الآفاق لأنه كان لا يصل لصاحب الحقّ إلاّ بعض حقّه وبعض ذلك باق في بعض البلاد خصوصا مصر، وكان من قضاته أبو خارم (١٥٠) بالخاء المعجمة والراء المهملة، وهو من أكابر العلماء وأهل الدّين والتّقوى، فكان من بعض ثباته في الدين أن شخصا انكسر عليه مال كثير وثبت عليه ذلك عند القاضي المذكور، فأمر بتوزيع ماله على الغرماء بالمحاصّة، وكان قد انكسر على ذلك المديون مال للمعتضد أيضا، فأرسل للقاضي يطلب أن يشركه مع الغرماء


(١٤٨) النقل من ص: ٣٦٨، وتصرّف المؤلف في النقل بتغيير قليل من الألفاظ وبالزيادة.
(١٤٩) ما بين القوسين غير موجود في تاريخ الخلفاء.
(١٥٠) في تاريخ الخلفاء: «أبي حازم».