للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في مدائن الإسلام، ولم يوجد في المدارس أكثر كتبا منها ولا أكثر أوقافا عليها، وكان لهذه المدرسة / أربعة مدرّسين يدرّسون فيها المذاهب الأربعة، ورتّب فيها الخبز واللّحم والفاكهة وكسوة الشتاء والصيف، وأوقف على ذلك ضياعا وقرى كثيرة، وجعل عليها ثلاثين قيّما وكانت مدارس بغداد يضرب بها الأمثال في ارتفاع العماد وسعة الطّعام والشّراب، وقد حكي أن أول مدرسة بنيت في الدنيا مدرسة نظام الملك في بغداد، فبلغ علماء ماوراء النهر هذا الخبر، فاتّخذ العلماء مأتما وحزنوا على سقوط حرمة العلم، فسئلوا عن ذلك فقالوا: إن العلم ملكة شريفة وحلية لطيفة، لا تطلبه إلاّ النّفوس الفاضلة الشّريفة لمادة الشّرف الذّاتي والمناسبة الطبيعية، ولما جعل عليه أجرة، طلبته النفوس الرّذيلة وجعلته مكسبا لحطام الدّنيا، وتزاحمت عليه لا لتحصيل شرف العلم، بل لتحصيل المناصب الدّنيوية الفانية، فرذل العلم برذالتهم، ولم يشرفوا بشرفه، أنظر إلى علم الطبّ فإنه مع كونه علما شريفا، طلبه أرذال اليهود فرذل برذالتهم، ولم يشرف أرذال اليهود بشرف علم الطبّ، وهذا حال أكثر طلبة العلم في هذه الأعصار الفاسدة، وهذا شأن طلاّب هذه العلوم المتداخلة في هذا السّوق الكاسد الخاسر تجارّه، فإنك ترى أكثرهم مع دأبه في الطّلب وانكبابه على فنون العلم والأدب يزداد كلّ وقت / عجبا وكبرا، ويتعاظم على كلّ أحد بهاء وفخرا، ولم ينتقل عن الأخلاق الرذيلة ولو اكتسب من العلم ما اكتسب من الفضيلة، وقلّما يتحلّى أحد منهم بحلي الأخلاق الحسنة الجميلة والمزايا الجليلة، وما ثمرة كسب العلوم غير التّخلق بحسن الأخلاق، والعمل بطيب الأصول والأعراق.

وهذا المستنصر (*) هو الذي دعا له (٢٥٠) بالأندلس الأمير أبو عبد الله محمد بن هود (٢٥١) ووصلت إليه من قبله الخلعة والرّاية وغير ذلك من طرائف العراق، وكانت وفاته يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة (٢٥٢).


(*) في الأصول: «المنتصر» والمثبت من الكامل ١٢/ ٤٥٨ وغيره.
(٢٥٠) ثار ابن هود على الموحدين بالأندلس وزحف إلى مرسية فدخلها واعتقل السيد (أبا العباس والي مرسية) وخطب للمستنصر صاحب بغداد. أنظر تاريخ العبر لابن خلدون، دار الكتاب اللبناني ١٩٦٨، ٤/ ٣٦٢.
(٢٥١) أنظر نسبه في نفس المرجع ص: ٣٦١.
(٢٥٢) وقيل في ١١ منه، ٧ نوفمبر ١٢٤٢ م.