للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وجمع من قدر عليه، وبرز إلى قتال هولاكو، فجمع من أهل بغداد وخاصة عبيده وخدّامه ما يقارب أربعين ألفا، لكنّهم مرفهون بلين الأنهار، ساكنون على شطّ بغداد في ظلّ ظليل، وماء معين / وفاكهة وشراب واجتماع أحباب وأصحاب، ما كابدوا حربا ولا دافعوا طعنا ولا ضربا، وعساكر التتار ينيفون على مائتي ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، وسالب وباسل وفاتك وقاتل يثبون وثوب القردة، ويتشكّلون بأشكال المردة، يقطعون المسافات الطويلة في ساعات قليلة، ويخوضون الأوحال ويتعلّقون بالجبال، ويصبرون على العطش والجوع، ويهجرون الغمض والهجوع، ولا يبالون بالحرّ والبرد، والسّهل والوعر، والبرّ والبحر، طعامهم كفّ من شعير وشربهم (٢٧٨) حما البير، يكاد أحدهم يتقوّت بطرف أذن فرسه يقصّها ويأكلها نيّة ويصبر على ذلك أياما عديدة، ويكتفي هو وفرسه بحشيش الأرض مدة مديدة، فوقع المصاف والتحم القتال، وأوقد نار الحرب والنزال، وزحف الجيش للجيش في يوم الخميس عاشر محرّم الحرام سنة نيف (٢٧٩) وخمسين وستمائة، وثبت أهل بغداد مع ترفهم على حدّ السيوف، وصبروا على حرّ الحتوف، واستمرّوا كذلك من قبل الفجر إلى ادبار النهار، فعجزوا وفرغ الاصطبار فانكسروا شرّ انكسار، وولّوا الأدبار، وغرق كثير منهم في دجلة وقتل أكثرهم أفظع قتلة وأعقبهم التتار بالسّيف والنّار، ونهبوا الخزائن والأموال، فأخذ هولاكو بغداد (٢٨٠) واحتوى على ذخائرها فاستصفى النّقد، وأمر بإحراق الباقي، ورموا كتب مدارس بغداد في بحر الدجلة، فكانت لكثرتها / جسرا، يمرّون عليها ركبانا ومشاة، وتغيّر لون الماء بمداد الكتابة إلى السواد، وكانت هذه الفتنة من أعظم مصائب الإسلام، وسيق المستعصم هو وأولاده وأمراؤه إلى هولاكو أسارى ذليلين، فقرأ: فسبحان المعزّ المذلّ القادر القاهر تعالى شأنه وعزّ سلطانه، فاستبقى هولاكو الخليفة أيّاما إلى أن استصفى أمواله وخزائنه وذخائره


= بين يدينا فقالوا له: يا أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين أنت الذي فعلت تلك الأمور وتركت عساكرك ذهبت من بين يديك، وأخربت بيت شرفك حتى ذهبت جلالة الملك عليك ونحن وقت الذي نصحناك وقلنا لك سر في ملكك كما سارت آبائك ولا تسمع قول القائلين، وصن حرمتك وحسّن ملكك ودولتك فأبيت عن هذا الكلام واتّبعت كلام ذلك العلقمي الخائن الولهان، فلمّا سمع منهم ذلك الكلام فاق من نومه».
(٢٧٨) ج حمأة: الطين الأسود المنتن. قال الله تعالى مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وفي كتاب المقصود والممدود لأبي علي القالي: «الحما»: الطين المتغير، تاج العروس لمحمد مرتضي الزبيدي، دار مكتبة الحياة بيروت لبنان ١/ ٥٨.
(٢٧٩) في كتاب العبر: «ست وخمسون وستمائة» ١٢٥٨ م.
(٢٨٠) في ٢٠ محرّم، وعن أخذ بغداد أنظر كتاب العبر ٥/ ١١٥٠. =