للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يتّسع إلاّ لسيارة واحدة، إن دخلته السيارات من هنا مُنع دخولها من هناك وإن دخلت من هناك مُنع دخولها من هنا. وكان يخفق دائماً خفقان قلب المُحِبّ إذا رأى المحبوب، فإن مشى عليه رجل ثقيل اضطرب غضباً، وإن سارت عليه الحِسان الفواتن اهتزّ طرباً، وإن عدَت عليه السيارات رقص بهجة وعجباً أو غيظاً وغضباً، لا يهدأ ولا يستقرّ.

وما يهمّ المسافر بعد الفنادق هو وسائل النقل. وقد قلت لكم إنه لم يكن في بغداد إلاّ شارع واحد هو شارع الرشيد، وأحسب أن طوله بين الكيلين والثلاثة الأكيال، ربما كان قريباً من ذلك فلم أقِسه ولم أتحقّق من طوله. وكانت فيه عربات الخيل تسير النهار كله لا تقف، ولا تستطيع أن تقف، ولا تتعب خيولها لأنها لا تمشي مشياً ولكن تزحف زحفاً، وربما وصل الماشي في بعض ساعات النهار إلى آخر الشارع وعاد وهي لا تزال في نصف الطريق! ومع هذه العربات باصاتٌ كأنها صناديق العنب يزدحم فيها الناس كالسردين في العُلَب، يجلسون على مقاعد من الخشب والسقفُ دانٍ قريب، من وقف خبط رأسه ومن كان طويلاً اضطُرّ أن يقعد منحنياً لئلاّ يمسّ رأسه السقف.

بتّ تلك الليلة كالذي يبيت على فراش الشوك، لا أستقرّ ولا أستغرق في المنام، لأني قادم على حياة جديدة في بلد جديد. أنام ساعتين ثم أقوم فأنظر في الساعة لأرى كم بقي دون الصباح، حتى إذا دخل وقت الفجر قمت فتوضّأت وصلّيت، وقعدت في الشرفة أرى بواكير أشعة الشمس وهي تغتسل في ماء دجلة، والزوارق بأجنحتها البيض تمخر عبابه، وبيوت الشط

<<  <  ج: ص:  >  >>