للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«كالغَيرى» منها، تنافسها وتباهيها، وحتى تبدو في الليل كأن سماءً رُكِّبت فيها؟ لقد قِسْتُ قطرها قياساً تقريبياً بخُطاي من أوله إلى آخره فإذا القطر نحو مئتَي متر، كما قاسه البحتري من قبل، ولكن البحتري لم يَقِسْه بالمتر فما كانت قد عُرفت الأمتار، ولم يقِسْه بالذراع فالذراع مقياس ميت وكلّ ما في عالَم الشعر حيّ، لقد قاسها بالسَّمَك!

لا يبلغُ السّمَكُ المَحصورُ غايتَها ... لِبُعْدِ ما بينَ قاصيها ودانيها

هذا وهي جافّة، فكيف تكون لو عادت وامتلأت بالماء تنصبّ فيها وفوده «كالخَيلِ خارِجةً مِن حَبلِ مُجرِيها»؟ وقامت حول الماء بيوت «الآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغانِيها»؟ (١) إذن لرأيت أكثر ممّا قال البحتري.

ثم وقفنا في الإيوان الكبير، وهو مبنيّ على شكل إيوان كسرى، ولكنه أجمل وإن كان أصغر. وقفنا صامتين خاشعين تتقاذفنا عواطف وذكريات لا يُدرى مداها، نتخيل هذا الإيوان وكم عُقِد فيه من مجالس، وكم وقف فيه من ملوك، وكم كُتب


(١) من قصيدة للبحتري فيها:
يا مَن رأى البِرْكَةَ الحَسناءَ رُؤيَتَها ... والآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغانيها
ما بالُ دجلَةَ كَالغَيرى تُنافِسُها ... في الحُسنِ طَوْراً وأَطواراً تُباهيها؟
تَنْحَطُّ فيها وُفودُ الماءِ مُعْجَلَةً ... كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجريها
كأنّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً ... مِنَ السَبائِكِ تَجري في مَجاريها
(مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>