للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا ما عشت عليه، فحفظت به وقتي وأرحت نفسي. وأنا رجل أعرف ربع أهل بلدي ويعرفني نصفهم، فلو أني ألزمت نفسي تهنئة كل مسرور وتعزية كل مصاب، واستقبال كل قادم ووداع كل مسافر والتهنئة بكل عيد، لما بقي لي وقت أكتب فيه ولما كان لي شيء من هذه الكتب وهذه الخطب وهذه المحاضرات. وصار لي ذلك طبعاً لا تطبّعاً، فلما كانت هذه الرحلة واضطُررت إلى القيد بعد الانطلاق وصرت أُقاد بعد أن كنت أنا الذي يقود، أحسست أني في سجن!

وصلنا سورابايا العشيّة. وكانت قد مرّت بي ليلتان لم أنَم فيهما كلتيهما خمس ساعات، وكان جسدي محطّماً من هزّ القطار وأثقال الغبار، وأعصابي مرهَقة من طول السفار، فلم أكن أشتهي إلاّ أن أستحمّ ثم أُترك لأنام، ولكن أين مني المنام؟ لقد كان علينا أن نحضر حفلة عشاء بعد ساعة واحدة، فمشينا إليها، وتكلّمت فيها، ثم قمت لأجيب على أسئلة السائلين عن قضية فلسطين التي جئنا من أجلها، ثم شيّعَنا قوم منهم إلى الفندق تكرمة لنا وعناية بنا، فما انصرفوا عنّا حتى كان قد مضى أكثر الليل.

وأعيدت القصّة نفسها بفصولها الليلة التي بعدها، وخرجت من غرفتي فوقفت في حديقة الفندق الكبير أنتظر الشيخ، وكانت السيارة ومن فيها بانتظارنا، فوجدت في طرف الحديقة في بقعة مظلمة منها لا تُرى كرسياً مستطيلاً من الخيزران فاستلقيت عليه، وإذا هو قد جُعل على استواء ظهر الإنسان، كأنما قد فُصّل له قالب بالجبس على مقداره ثم صُبّ فيه هذا الكرسي، فله عند العنق مثل الوسادة وله بروز عند الصُّلب وانحناء عند العجيزة،

<<  <  ج: ص:  >  >>