للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونشتّي مع الشمس، والشهور القمرية تدور مع الأيام فتأتي صيفاً كما تأتي شتاء. على أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله.

إني لأفكّر الآن وأنا على أبواب الثمانين خارجاً منها لا داخلاً إليها، بعد خمسة عشر يوماً أستكملها، أفكّر في الذي رأيت في هذا العمر، والذي رأيته أكبر من أن يتّسع له فصل في هذه الذكريات. وما هذه الذكريات؟

كان من رفاقنا الأقدمين أخ أُولعَ بالكيمياء، يُنفِق عليها ماله ويضيع فيها جهده، حتى برع فيها وصار من علمائها. كان يقطّر العطر تارة، فإذا دخلتَ معمله شممتَ منه ريّا روض أريج أو جنة فوّاحة الأزهار، وتارة يستخرج مادة تشمّ رائحة الكنيف ولا تشمّها، وتسدّ منخريك ولو اختنقتَ عن أن تدخل الرائحة إليهما، أودعَها قوارير يضع عليها أوراقاً يلصقها بها تبيّن الذي فيها.

ثم كبرنا ومرّ دهر وانصرف عن الكيمياء حتى ما يفكّر فيها. وزرته يوماً فسألته أن يُريني معمله، فقال: وماذا تريد منه؟ إنك لن تستطيع دخوله. فأصررت فأخذني إليه، فإذا العنكبوت قد عشّش على بابه والغبار قد تراكم فوق رفوفه، ونظرت إلى تلك القوارير فإذا هي فارغة كلها قد طار ما كان فيها.

فجعلت أقرأ اسم العطر: عطر الورد أو الزنبق أو الفلّ أو الياسمين، وما ثَمّ عطر ولا شيء يشبه العطر. وأقرأ أسماء حامض الكبريت وما لست أدري ما هو، وما بقي منه شيء. أمّا القوارير التي لم يلصق بها اسمُ ما فيها فلم يعُد يعرف أحدٌ ما كانت تحتوي.

هذا مثالي حين أكتب ذكرياتي، ذهبَت المسرّات والآلام

<<  <  ج: ص:  >  >>