للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد ظهرتُ مبكّراً فالتفتَت إليّ الأنظار. وما كان ذلك لأنني جئت بما لم تجئ به الأوائل أو لأن عندي عبقرية قلّ مثيلها بين الناس، بل لأن الساحة كانت خالية، أو كأنها لقلّة مَن فيها كالخالية. والبِركةُ الساكنة إن ألقيتَ فيها حصاة حرّكتها وانداحت فيها -كما يقول ابن الرومي- الدوائر، والنهر الهادر الجياش المتحدّر من الأعالي إلى الأعماق إن رميتَ فيه صخراً لم تجد للصخر أثراً. والدهر أيام ثلاثة (١):

ثلاثةُ أيامٍ هيَ الدهرُ كلُّهُ ... وما هُنّ غيرُ الأمسِ واليومِ والغدِ

أما الغد فللشبان يصبّون فيه أحلامهم ويستودعونه أمانيّهم وآمالهم ويتوقعون منه المستحيل، لقد كانوا يُنشِدون ذلك النشيد الذي كان يوماً على كل لسان وكان يُسمَع في كل محفل ونادٍ: «نحنُ الشبابُ لنا الغدُ». أمّا الأمس فللشيوخ، يستعيدون بالذكرى أيامه ويبكون بعد الفقد أحلامه، يتصورون مُرَّه حلواً وسوادَه بياضاً، لا يرون غيره، لا يقول أحدهم: سأكون؛ ولكن يقول: كنتُ، لذلك دعا العرب الشيخ الكبير «الكُنْتِيّ» (نسبة على غير قياس إلى قوله «كُنْتُ»).

وأمّا اليوم فلغافل جاهل وقفَت به همّته حيث تقف الأنعام، فكان مطلبه الشراب والطعام، فإن أخذ حاجته منهما طلب الزواج، فهمّه طعامه وشرابه ونكاحه، لا يكاد يذكر ما مضى ولا


(١) من هنا إلى آخر الحلقة الآتية هي المقدمة التي كتبها علي الطنطاوي لكتاب أخيه ناجي «كلمات نافعة»، ونشرته دار المنارة (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>