للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النظامية إلى آخر مراحل الدراسة في بلدي، وفي القراءة على المشايخ كما يقرأ طلاّب الأزهر، وبالمطالعة الدائبة المستمرة في كل علم وكل فن.

وكانت هذه الذكريات كقطع من الذهب الثقيل وضعتها في كيس من قماش ضعيف ومشيت بها، فكلما خطوت في طريق الحياة خطوة سقطَت من الذهب قطعة، حتى فقدت أكثرها. ما دوّنتُ شيئاً وكان اعتمادي كله على الذاكرة، وقد خبّرتكم من قبل ماذا صنعت بهذه الذاكرة الأيام.

فأنا أقرأ الحلقة المنشورة ولا أدري والله ما الذي أكتبه بعدها، فذهني كالمستودَع فيه من كل بضاعة، ولكن بضائعه مركومة رَكماً تداخلت أنواعها واختلطت، فإذا أردت أن أستخلص نوعاً منها جردتها كلها، أو عجزت عن جردها فنمت إلى جنبها ثم نسيتها.

وطالما فكرت في الهرب، ولكن الحارس يقظ يسدّ عليّ الطريق، فلما نقلت إلى الجريدة رأيت أن قد وجب الهرب؛ فما يُنشَر في الجريدة هو صدى لما يقوله الناس وصورة لما يشغلهم من أحداث يومهم ممّا يهمّ جمعهم، وأنا أجيء لأحدثهم عن أحداث مضت، لم تكن تاريخهم كلهم بل تاريخي أنا من دونهم، فيكون حديثي أبرد الأحاديث وأثقلها. هم يقدّمون للقرّاء طعامهم المفضّل لديهم حاراً في طبق صُبّ لهم، وأنا أقدّم لهم في طبقي «البائتَ» من طعامي، فاسألوا القرّاء: هل يهمّهم أن يعرفوا ماذا فعلت أو ما قلت أو ماذا رأيت وما سمعت من خمسين سنة، وهم

<<  <  ج: ص:  >  >>