للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويا ليتني كنت أسْطيع الوصول إليها لأقف كما وقف امرؤ القيس على الأطلال، يبكي ويستبكي، فعلّم الشعراء الوقوف والبكاء، حتى من كان يعيش منهم في نعيم بغداد ما رأى الصحراء ولا أبصر النؤى ولا موقد النار وصاغ فيهما بدائع الأشعار:

ولقد مررتُ على ديارِهمو ... وطُلولُها بيدِ البِلى نَهْبُ

فوقَفتُ حتّى ضجَّ من لَغَبٍ ... نِضوي ولجَّ بعُذّلي الرَّكْبُ

وتلفّتَت عيني فمُذْ خَفِيَت ... عني الطُّلولُ تلفّتَ القلبُ

وأنا اليوم مثل الشريف (١)، أتلفّت بقلبي إلى ديار خفِيَت عن ناظري ولكنْ ما سلاها خاطري ولا خفّ إليها شوقي، إلى بقعة صغيرة من الأرض كانت هي دنياي كلها وكان فيها كل أهلي وأحبائي، فلم يبقَ منها إلا كَومتان من تراب أمام ساقية صغيرة ... فيا أيها المسافر إلى دمشق: هل تُحسِن إلى شيخ غريب فتزور عنه هذا الذي بقي من عالَمه، وتريق عليه دموع قلبه ورحيق حبّه؟ هل تقف على قبر أمي وقبر أبي فتقول لهما: إن ابنكما الذي تركتماه يمرح في رداء الشباب يطير إلى آفاق المستقبل على جناح الأمل، يحمل أحلاماً تعجز عن حملها مناكب الرجال فيمضي قُدُماً بها لا يُرضيه إلا تحقيقها، قل لهما: إنه قد ولّى شبابه، وانكسر جناحه، وذابت أحلامه، فلم يبقَ له من أمل إلا دوام الصحّة وحسن الخاتمة. قُل لهما: لقد صار ولدكما أكبرَ سناً منكما، صار شيخاً وبَناتُه صرنَ جدّات. ولكنه لم ينسَكما ولم ينقص حبه لكما


(١) الشريف الرّضي، وقُرئ البيت الثالث في الديوان: خفيت عنها الطّلول ... (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>