للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= المشهد السابع: مشهد الأمن. فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام: أمِن ما هو شرٌّ من ذلك.
المشهد الثامن: مشهد الجهاد. وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإقامة دين الله، وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام: قد اشترى اللهُ منه نفسَه ومالَه وعرضَه بأعظم الثمن، فإن أراد أن يُسلَّم إليه الثمن فليسلِّم هو السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قِبَله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله.
فمن قام لله حتى أوذي في الله: حَرَّم الله عليه الانتقام، كما قال لقمان لابنه ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧]. المشهد التاسع: مشهد النعمة. وذلك من وجوه:
أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلومًا يترقب النصر ولم يجعله ظالما يترقب الَمقْت والأَخْذ، فلو خُيِّر العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما لاختار أن يكون مظلوما.
ومنها: أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه.
ومنها: أن يشهد كون تلك البليِّة أهون وأسهل من غيرها، فإنه ما من مِحنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمَرّ، فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده، وأن كلَّ مصيبة دون مصيبة الدين فهيِّنة، وأنها في الحقيقة نعمة. والمصيبة الحقيقية: مصيبة الدين.
ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة. وفي بعض الآثار: أنه يتمنى أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تُقرَض بالمقاريض لمِا يرون من ثواب أهل البلاء.
هذا، وإن العبد ليشتدُّ فرحه يوم القيامة بما له قِبَلَ الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يَعُدُّ هذا ذَخرًا ليوم الفقر والفاقة، ولا يُبطله بالانتقام الذي لا يُجدي عليه شيئا.
المشهد العاشر: مشهد الأُسْوة. وهو مشهد شريف لطيف جدا، فإن العاقل اللَّبيب يرضى أن يكون له أسوة برُسُل الله وأنبيائه وأوليائه، وخاصته من خلقه؛ فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس، وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور.
المشهد الحادى عشر: مشهد التوحيد. وهو أجل المشاهد وأرفعها فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والأنس به واطمأن إليه = وسكن إليه إلى لقائه واتخذه وليا دون من سواه بحيث فوّض إليه أموره كلها ورضى به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه: فإنه لا يبقى فى قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة، فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة. فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه، فهو قلب جائع غير شبعان فإذا رأى أى طعام رآه هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه. وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها: فإنه لا يلتفت إلى ما دونها ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: ٢١]. انتهى. . ا. هـ بتصرف. [مدارج السالكين ٣/ ٩٥ - ١٠٢]

<<  <   >  >>