للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ودخلت الغرفة وأغلقت عليّ بابي، وأردت أن أفيء إلى عزلة أسكن فيها نفسي وأجد فيها راحتي، ولكن الباب قُرع وجاء السيد حيدر الجوادي، الرجل الذي ملك على الدكتور زكي مبارك أمره وأطربه وأعجبه، حتى غدا لا يصبر عن سماعه حيثما رآه، وحتى اضطره إلى الغناء في المكتبة العامة، وقال له: غنِّ ها هنا، فوالله ليتحدثن بها الناس، وليقولُنّ إن زكي مبارك ابتدع الغناء في المكتبات ... جاءني فغنّاني «أبوذِيّةً» من «أبوذيّات العراق»، التي ما أظن أن إنسِياً أو جِنّياً عرف نغمة أشجى منها وأسرع إلى القلب وصولاً وأشدَّ للألم تصويراً. هي قطرات من الدمع صُوّرت نغماً، هي خفقات القلب صيغت نشيداً، هي ... هي خلاصة الفن العبقري الذي يصور الألم العبقري.

فهزّ نفسي هزاً عنيفاً، فتح صفحاتها جميعاً، ووصل ماضيها بحاضرها، وأسلمها إلى ذهلة عميقة، لَذّة (١) ممتعة، ولكنها أليمة موجعة. ذكرت «العتابا»، تلك الأغنية التي ترنُّ بها أبداً أودية لبنان وتنحدر أصداؤها على سفوحه وحدوره، ولا يدري أحدٌ من هو الذي وضعها ونظم مطلعها وألف لحنها، «العتابا» الخالدة التي يشترك في تأليفها العصر الجديد والعصر الغابر، ويزيد فيها كل جيل أدواراً، فيكون منها الصورة الصادقة لعواطف الشعب وهواجسه وأمانيه وذكرياته، تلك التي تعيش في ترنيمة السواقي المتكسرة على الشعاف والصخور لتبلغ قرارة الوادي، وفي نشيد الرياح في الأودية البعيدة، وفي همس الأوراق في غابات الصنوبر


(١) في أكثر من موضع في كتابات الشيخ المنشورة أشار في الحاشية إلى أن لَذّة صفة بمعنى لذيذة (مجاهد).

<<  <   >  >>