للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك أن ما نسميه (العقل) ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونيّة والتاريخية والإنسانيّة والغيبيّة هو إفراز واقعنا البشري المحدود، وتجاربنا البشريّة المحدودة!

وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيّد بمفردات التجارب والوقائع، بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها، إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري .. وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله، والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا، ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها، ومن ثم لا يصلح أن يقال: إن مدلول هذا البحر يصطدم مع العقل فلابد من تأويله -كما يرد كثيراً في مقررات أصحاب هذه المدرسة- وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة، ولكن معناه أن (العقل) ليس هو الحكم في مقررات القرآن، ومتى كانت المدلولات التعبيريّة مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا، وكيف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى!

فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بيّنه في صورة وصفية رائعة:

{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)}!

ومعنى أبابيل كما قال مجاهد: شتّى متتابعة، ومعنى سجيل كما قال ابن عباس: طين وحجارة (١)، والعصف المأكول كما قال سعيد بن جبير: التبن الذي تسميه العامة هبّور، والمعنى كما قال ابن كثير: أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم ودمّرهم وردّهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيراً، وأهلك عامتهم، ولم


(١) فتح الباري: ٨: ٦٠١.

<<  <  ج: ص:  >  >>