للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولذلك أيضًا يختلف البلوغ عادة في الأقطار الحارَّة، عن الأقطار الباردة، فالصبي في سن الرابعة عشر في بلد ما يبلغ الحُلم فيتعلق به التكليف، ونظيره في بلد آخر لا يبلغ فلا يكون مكلَّفًا؛ فسقوط التكليف عن أحدهما وقيامه بالآخر ليس لاختلاف الخطاب الموجَّه إليهما، بل هو واحد، ولكن متعلِّقه وقوع التكليف على من عاش في بلد حار وظهرت عليه أمارات البلوغ، وعدم التكليف على من عاش في بلد آخر ولم تظهر عليه الأمارات نفسها (١).

وغني عن البيان أن أوقات الصلوات والصيام تتفاوت بحسب المكان تفاوتًا بينًا كما في المناطق القطبية الشمالية والجنوبية (٢).

ومن أظهر الأمثلة على أثر اختلاف الأماكن في الفتاوي: ما أفتى به علماء الأندلس في أواخر القرن التاسع الهجري في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع؛ نظرًا لما تحتاجه أرض الزرع من قوة الخدمة ووفرة المصاريف، كما زهدوا في كرائها للغرس والبناء لقصر المدة التي تُكتري أرض الوقف لمثلها؛ ولرفض الغارس أو الباني أن يغرس ثم يقلع أو يبني ثم يهدم؛ ناهيك عما يتطلبه ذلك من الوسائل والعتاد وغيرها في الأندلس التي تختلف في طبيعة الحياة وتكاليفها عن الجزيرة العربية التي لا يتطلب البناء فيها يومئذ أكثر من شيء يسير من الطين والجريد.

كان هذا الوضع السائد في الأندلس يومئذ حاملًا لبعض علمائها كابن السراج وابن منظور -عليهما رحمة الله- على الإفتاء بجواز كراء الأرض على التأبيد، ورأوا أن التأبيد لا غرر فيه؛ لأن الأرض باقية غير زائلة (٣).


(١) الحكم الشرعي بين العقل والنقل، د. الصادق الغرياني، دار الغرب الإسلامي، بيروت ١٩٨٩ م، (ص ٣٢٥).
(٢) سيأتي تعرض لبعض هذه الأحكام عند الكلام عن أحكام الأقليات في الباب الثالث بمشيئة الله.
(٣) مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص ١٢٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>