للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما المفتي فإن تجرده من الهوى أشدُّ لزومًا من المستفتي؛ لأنه موقِّع عن الله تعالى مخبر بشرعه، فإن أفتى بهواه موافقة لغرضه أو غرض من يحابيه كان مفتريًا على الله؛ إذ سينسب باطله وإفكه إلى شريعة الله -عياذًا بالله- وقد قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: ١١٦، ١١٧]، وقال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: ٢٦].

ولقد كثر في زماننا من يُفتي بالباطل اتباعًا لهوى نفسه، أو هوى الحكام والمسئولين، أو هوى العامة والمستفتين.

وقد يداخل الهوى بعضَ المفتين فيتعلق بالخلاف الوارد في المسألة ويُفتي بما يوافق هواه أو هوى مستفتيه آخذًا بأي قول قيل في المسألة، ولو كان مطَّرَحًا أو شاذًّا لا يُعَوَّل عليه أو لا يُعرف قائله، وربما علل باطله بدعوى التيسير ورفع الحرج وأنَّ الخلاف رحمة، وأنَّ من ابتلي بما فيه الخلاف فليقلد من أباح، مع أن تتبع الرخص فسق وزندقة، كما هو مشهور عند العلماء وأهل الأصول.

وقد أحسن ابن القيم -رحمه الله- إذ قال: "لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتي به ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر" (١).

ثامنًا: أهلية المفتي للفتيا:

لما كانت الفُتيا خبرًا عن الله وتوقيعًا عنه تعالى فلا بد للمتصدر لها من شروط تتحقق فيه؛ ليكون أهلًا للقيام بهذه المهمة العظيمة التي تولاها الله بنفسه، فقال: {يَسْتَفْتُونَكَ


(١) المرجع السابق، (٤/ ٢١١).

<<  <  ج: ص:  >  >>