للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ لقول الله -عز وجل-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (١) يعني خالقهن، وبقوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} (٢) يعني خلقني، وبقوله: {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} (٣) يعني خلقهن. قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ وأنكروا أن يكون المولود يُفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار. قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقةً وطبعًا وبنيةً ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء -يعني سالمة- هل تحسون فيها من جدعاء، يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلّهم" (٤).

وقد عبّر ابن الجوزي عن هذه الفطرة المتجهة نحو الله تعالى بداهةّ بقوله: "إن الله -عز وجل- وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل، فالنفوس تعلمها ضرورة وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها؛ فإنه وضع في النفس أن المصنوع لابدّ له من صانع" (٥).

إن أمر النشأة الأُولى غيب لم يطلع الله -عز وجل- البشر عليه؛ فإنه يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} (٦)، وابن الجوزي يقول في ذلك "ولا يُعرف مع هذا ماهيتها ولا كيفيتها ولا جوهرها


(١) سورة فاطر، الآية ١.
(٢) سورة يس، الآية ٢٢.
(٣) سورة الأنبياء، الآية ٥٦.
(٤) القرطبي، أبو عبد الله، محمد، الأنصاري. الجامع لأحكام القرآن. (تحقيق) البردوني، أحمد، عبد العليم، الطبعة الثانية، ١٣٧٢ هـ-١٩٥٢ م، الجزء الرابع عشر، ص ٢٧.
(٥) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج. صيد الخاطر. ص ٢٤٩.
(٦) سورة الكهف، الآية ٥١.

<<  <   >  >>