للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الروضة (١) بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، ثم صار يجمع ما يتيسر له من الأحاديث، ويضعها في أبوابها اللائقة بها في الحرمين وغيرهما من البلاد التي ارتحل إليها، وقد مكث في تأليف صحيحه ست عشرة سنة، وهو يحرر ويدقق، وينتقي ويتخير ما هو على شرطه حتى جاء كتابه على ما أحب، ويحبه طلاب الحقيقة، ورواد البحث.

وبذلك اجتمع لهذا الكتاب الصحيح من دواعي التوفيق إلى الحق والصواب ما لم يجتمع لغيره، فلا عجب أن كانت له منزلة سامية في نفوس العلماء، وأن تلقته الأمة الإسلامية بالقبول والاطمئنان إلى ما فيه، وأن استحق أن يطلق عليه أنه أصح الكتب المدونة في الحديث النبوي.

[براعة البخاري في النقد]

وللإمام البخاري في تعديل الرجال وتجريحهم، ونقد المتون، ونقد الرواية شروط عالية دقيقة، وشفوف نظر، وملكة عجيبة اكتسبها من طول ما بحث، ونقد، ومن طول ما عرض له من علل الأسانيد والمتون وذلك: كالنطاسي البارع الذي يحصل له من طول ملازمته لمهنة الطب وكثرة ما عرض عليه من الأمراض، نوع من العلم، قد يصل إلى حد الإلهام، بالعلل والأمراض، والوقوف على حقيقتها ومكامنها مهما كانت خفية، أو كانت عوارضها غير واضحة. وكالصيرفي الماهر الذي اكتسب بطول ملازمته الصيرفة التمييز بين النقود الجيدة السليمة، والنقود الزائفة وربما تسأله عن السبب في الحكم عليها فلا يجيب.

وهذه الملكة في التمييز بين الصحيح من الحديث والعليل تكاد تكون عند معظم أئمة الحديث وجهابذته، وإن كانوا يتفاوتون فيها على حسب الأصالة في النقد والاستعداد، وسعة الاطلاع ولعلك لمحت هذا التنظير بين المحدثين والأطباء في كلمة الإمام مسلم للبخاري: (يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله) وبين المحدثين والصيارفة في تعبيرهم عن نقاد الحديث: (صيارفته).


(١) في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".

<<  <  ج: ص:  >  >>