للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الخلاص من الموت بالتقية. والوجه الثاني: إنه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاك، وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضاً، وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين. واختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلماً من عندهم على بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل لا، وأن الذي وقع في القصة منسوخ، وأن ناسخه حديث "أنا بريء من مسلم بين مشركين" وهو قول الحنفية. وعند الشافعية تفصيل بين العاقل والمجنون والصبي فلا يردان. وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب والله أعلم ...

قال الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس، كلم بعضهم بعضاً والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. يعني من صناديد قريش، ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزهري أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجاً، وكانت الهدنة مفتاحاً لذلك. ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميت فتحاً كما سيأتي في المغازي، فإن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقاً حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيماً للمسلمين وفي الصورة الباطنة عزاً لهم. فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، وظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وأفهروا (١) من حيث أرادوا الغلبة.

قوله (حتى اجتمعت منهم عصابة) أي جماعة ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وهذا الحديث يدل على أنها تطلق على أكثر من ذلك، ففي رواية ابن


(١) أفهروا: أي: ألقموا حجراً، والفهر: الحجر يملأ الكف.

<<  <  ج: ص:  >  >>