للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وتشوَّفت لخُطَّابها، فأصبحت كالعروس المجلوَّة؛ فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهةٌ، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلِّهم قاتلة؛ فعاشق لها قد ظفِرَ منها بحاجته فاغترَّ وطغى، ونسي المعاد فشُغِل بها لُبُّه، حتى زالت عنها قدمُه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات [١١ ب] الموت وألمه، وحسرات الفوت، وعاشق لم يَنل منها بُغْيته، فعاش بغُصَّته، وذهب بكَمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تَستِرحْ نفسُه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدِم على غير مهاد. فكن أسرَّ ما تكون فيها أحذرَ ما تكون لها؛ فإن صاحب الدنيا كلما اطمأنَّ منها إلى سرور أشخصَتْه إلى مكروه وُصِل الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوبٌ بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربُّها لم يُخبر عنها خبرًا، ولم يَضرب لها مثلًا، لكانت قد أيقظت النائم، ونبَّهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ، وعنها زاجر؟ فما لها عند الله قَدْرٌ ولا وزن، وما نظر إليها منذ خلقها. ولقد عُرِضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها، لا تنقصه عند الله جَناح بَعوضة، فأبى أن يقبلها.

كره أن يحبّ ما أبغض خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكُه، فَزَوَاها عن الصالحين اختبارًا (١)، وبسطها لأعدائه اغترارًا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكرم بها، ونسي ما صنع الله برسوله حين شدَّ الحجر على بطنه» (٢).


(١) كذا في ش، ت. وفي الأصل، م، ظ، ح: «اختيارًا».
(٢) شدُّ النبيّ الحجرَ على بطنه من الجوع ثابت في الصحيح، فمن ذلك ما رواه البخاري (٣٨٧٥) عن جابر رضي الله عنه في قصة الخندق أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قام إلى كدية وبطنه معصوب بحجر. ومنه ما رواه مسلم (٢٠٤٠) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جئت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا، فوجدته جالسًا مع أصحابه يحدّثهم وقد عصب بطنَه بعصابة على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطنه؟ فقالوا: من الجوع.