للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فخربت البلاد، وعمَّ القحط، وضعفت بيوت الأموال، وقلّ الجند، وهرب الفلاحون.

فركب بهرام يوماً إلى بعض مُتنزهاته، فجَنَّ عليه الليلُ وكانت ليلةً مقمرة، والموبذ يُسايره ويحادثه، فمروا بقرية كانت أمَّ القُرى، وهي خرابٌ لا أنيسَ بها إلا البوم يصيح ويتجاوب، فقال بهرام: أتُرى أُعطي أحدٌ من الناس فهمَ منطقِ هذا الطير المتجاوب في الليل الهادئ؟ فقال الموبذ: نعم أنا أعرفُ. قال: فما يقول؟ قال: هذا المصوِّتُ بومٌ ذَكَر يخاطب بومة أنثى، يقول لها: أمتعيني بنفسك حتى يخرج منا أولادٌ يسبحون الله، ويبقى لنا في العالم ذكرٌ. فقالت البومة: إن لي في هذا الحظَّ الأوفر، ولكن أريد أن تقطعني إقطاعاً على ذلك عِوضَ مَهري، فقال: وما هو؟ قالت: عشرين قرية من أمهات القرى الخراب التي خربت في أيام هذا الملك السعيد. فقال لها: إن دامت أيامُه أقطعتك ألف قريةٍ خراباً.

فلما سمع بهرام ذلك، ترجَّلَ عن فرسه وقال للموبذ: أيها القيِّمُ بأمر الدين، الناصح للملك، المُنبِّه على ما أهمله الملك من أمور رعيته، وإضاعة مملكته، ما هذا الكلامُ الذي خاطبتني به؟! فقد حركتَ مني ما كان ساكناً، وأيقظتَ ما كان غافلاً.

فقال: أيها الملك، اعلم أنه لا قِوام للملك إلا بالرجال، ولا رجالَ إلا بالمال، ولا أموال إلا بالعمارة، ولا عمارة إلا بالعدل، لأن العدل هو الميزان بين العالم، نصبه الله لخليقته، وأقام له قيِّماً وهو المَلك، وإنك أقطعتَ البلاد الوزراءَ والخدم والحاشية، فأخذوا ما كان فيها من الغَلّات، ولم يَعمروها فخرِبت.

فجزاه بهرامُ خيراً، وعاد إلى النظر في أمور رعيَّته بنفسه، فحسُنت أيامُه، واستقام ملكه، ثم أقام مالكاً أربعاً وعشرين سنة، وقيل: سبع عشرة سنة.

[فصل]

واختلفوا فيمن ملك بعده على ثلاثة أقوال:

أحدها: بهرام بن بهرام، ونظير ذلك في ملوك غسان: الحارث الأصغر بن


= الطوال ص ٥٨، وتاريخ اليعقوبي ١/ ١٦٣، وتاريخ الطبري ٢/ ٨١، ومروج الذهب ٢/ ١٩٣، والتنبيه والإشراف ص ١٠٤، والبدء والتاريخ ٣/ ١٦٥، وتجارب الأمم ١/ ٨٥، والمنتظم ٢/ ١٠٤ وغيرها.