للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومتى وقتك؟ قال: بعد ستة أشهر، قال: وكم مضى لك؟ قال: ستة أشهر، فسئل الشيخ عن ذلك فقال: دخلت أنا إلى دارنا يومًا شديد الحر وأنا عطشان، فوجدتُ ماءً مخلوطًا ببياض العجين، فأردتُ أن أشربه، فقالت لي نفسي: ترى الماء البارد في الكوز! ثمَّ امتنعتُ من الشرب، وعاهدتُ الله تعالى أن لا آكل ولا أشرب إلى سنة.

والشيخ أحمد أحدُ مَنْ قهر أحواله وملك أسراره، وانتهت إليه الرياسة في علوم الطَّريق، وشَرْحِ أحوال القوم، وكَشْفِ منازلاتهم، وله كلامٌ شريف على لسان أهل الحقائق.

وقال الشيخ أبو الحسن علي ابن أخت الشيخ أحمد: كنتُ يومًا جالسًا على باب خلوة خالي، وليس فيها غيره، فسمعتُ عنده حِسًّا، فنظرتُ، فإذا عنده رجلٌ، فتحدَّثا طويلًا ثمَّ خرج من كوَّةٍ في الحائط، ومَرَّ في الهواء كالبَرْقَ الخاطف، فدخلت على خالي، وقلت: ما الرجل؟ قال: أورأيته؟! قلتُ: نعم. قال: هو الذي يحفظ الله به قَطْر البحر، وهو أحدُ الأربعة الخواص إلا إنه هُجر منذ ثلاث ليال، وهو لا يعلم، قلت: فبأي سبب؟ قال: مُطرت جزيرته حتى سالت أوديتها، فَخَطَر في نفسه: لو كان هذا في العمران. ثمَّ استغفر، فَهُجِرَ، فقلتُ: أَوَأعْلَمْتَه؟ قال: لا، فقلت: لو أَذِنْتَ لي لأعْلَمْتُه. قال: رَنِّقْ، فرنَّقْتُ (١)، ثمَّ سمعتُ صوته: ارفع رأسك. فرفعتُه، وإذا بجزيرة في البحر، قمت أمشي فيها، وإذا بالرجل، فأخبرتُه، فقال: ناشدتك اللهَ إلا ما وضعت خرقتي في عُنُقي، وسحبتني على وجهي، ونادِ عليَّ: هذا جزاءُ من يعترض. فوضعتُ الخِرْقة في عنقه، ثمَّ هممتُ بسحبه، وإذا هاتفٌ يقول: يا عليّ، دَعْه، فقد ضجَّتْ ملائكة السماء باكيةً عليه، وقد رضي عنه. فأغمي عليَّ ساعة، ثمَّ سُرِّي عني، وإذا أنا بين يدي خالي بخلوته، ووالله لا أدري كيف ذهبتُ، ولا كيف جِئْتُ.

قلت: وكرامات سيدنا شيخ الإِسلام مُحيي الدِّين عبد القادر رحمة الله عليه كثيرة، ومناقبه غزيرة، وقد اقتصرنا على هذه النبذة، إذ لا يحتمل هذا الكتاب أكثر منها، وبالله التوفيق.


(١) عن رنَّقَ الطائرُ: إذا خفق بجناحيه في الهواء، وثبت ولم يطر، فرنَّقْتُ: أي تهيأتُ لذلك. انظر "لسان العرب" (رنق).